لم يكن القرار السعودى بإدراج جماعة الإخوان المسلمين فى قائمة «المنظمات الإرهابية» مفاجئا فى صيغته وتوقيته، غير أن منعطفاته تفضى لأوضاع جديدة فى المحيط الإقليمى وملفاته الملغمة. فى ظاهر نصوصه فإنه يذهب فى المواجهة إلى نهاياتها بملاحقة قياداتها وكوادرها فى منطقة الخليج، فالانتماء إليها محظور وتأييدها مُجرم. وفى مجرى سياقه فإنه يضعها على مستوى واحد مع التمرد الحوثى فى اليمن والجماعات المتشددة التى خرجت من عباءة «تنظيم القاعدة» ك«داعش» و«جبهة النصرة» فى سوريا و«حزب الله» فى السعودية نفسها. التصعيد مع «جماعة الحوثيين» له قصة وتاريخ، فهو موصول بالصراع السعودى الإيرانى على النفوذ فى اليمن. السعودية تعتبر تقليديا أن ما يجرى فيها يدخل مباشرة فى أمنها الداخلى وإيران تعمل على توسيع نفوذها الإقليمى. الصراع على النفوذ أفضى إلى إمدادات سلاح ودعم مالى من الطرفين الإقليميين للطرفين اليمنيين المتصارعين. السعودية مع الحكم وإيران مع التمرد. من هذه الزاوية فإن إدراج «جماعة الحوثيين» على قوائم الإرهاب السعودية تحصيل حاصل لكنه يكتسب أهميته فى توقيته كرسالة مزدوجة للسلطتين فى إيران واليمن. تقول للأولى إن أية اقترابات من الرياض ترتهن باستحقاقات فى جميع الملفات المعلقة بين البلدين ومن بينها الملف اليمنى.. وتقول للثانية إن للسعوديين حق النقض فى منح الحوثيين إقليما من ضمن فيدرالية يمنية مقترحة. والتصعيد مع «داعش» و«النصرة» له قصة أخرى وتاريخ آخر. فالجماعتان تنتميان فى مرجعيتهما الفكرية إلى تنظيم «القاعدة». و«القاعدة» بأفكارها وتكوينها وأهدافها هاجس أمنى وسياسى، فقد أسسه رجل الأعمال السعودى «أسامة بن لادن» وانضم إليه سعوديون ومصريون وعرب آخرون ودخل فى مواجهات مسلحة فى المملكة نفسها. فى التوقيت محاولة لإعادة ترتيب الأوراق السعودية بالملف السورى دون تغيير جوهرى عليه. قطيعة أكبر مع منظمتى «داعش» و«النصرة» ومسافة أبعد مع ممثلى الإخوان المسلمين فى الائتلافات السورية المعارضة دون أن تتضح الحدود الأخيرة فى تسليح وتمويل «الجيش السورى الحر» الذى تقلصت قوته الميدانية بصورة فادحة لصالح نظام الرئيس الحالى «بشار الأسد» من ناحية والتنظيمين التكفيريين «داعش» و«النصرة» من ناحية أخرى. والتصعيد مع «حزب الله» السعودى له قصة ثالثة وتاريخ ثالث، فالأمر يتعلق هنا بأمن المملكة المباشر ومطاردة أى نفوذ إيرانى داخلها. فى حالة جماعة الإخوان المسلمين فإن التصعيد يدخل فى أكثر من سياق، أوله: أمنى فالمملكة لديها معلوماتها أن اختراقا قد حدث فى بنيتها وأن الجماعة حاولت أن تقوضها بالكامل.. وثانيه: يدخل فى أمن الخليج الذى يرى أغلب حكامه أن الجماعة تمثل خطرا داهما عليه.. وثالثه: يدعم السلطة الانتقالية فى مصر بإسناد قرارها اعتبار الجماعة تنظيما إرهابيا، وبحسب مصادر موثوقة فإن مصر طالبت السعودية بالإقدام على هذه الخطوة.. ورابعه: رسالة جديدة إلى قطر التى تلاحقها اتهامات دعم الإرهاب وتدعيم تنظيماته ماليا وتسليحيا ولوجيستيا بأن الأزمة معها أخطر من أن يلخصها سحب ثلاثة سفراء خليجيين (السعودية والإمارات والبحرين) من العاصمة الدوحة، وهو بذاته قرار غير مسبوق فى منظومة التعاون الخليجى.. وخامسه: رسالة استباقية للرئيس الأمريكى «باراك أوباما» قبل زيارته المنتظرة للرياض بأن ملف الجماعة قد أغلق على اعتبارها «إرهابية» وأن أية ضغوط محتملة لتخفيض مستوى دعمها للقاهرة تتصادم مع أمنها ومصالحها. بالنسبة للسياسة السعودية فإنها تميل إلى المحافظة وتتجنب الراديكالية، والمعنى هنا أن أسبابا اضطرارية دعتها لإغلاق ملفات على هذا النحو الصارم وفتح أخرى بلا تحسب لمستويات الضغوط. الأولوية السعودية لأمنها قبل أى شيء آخر ومرارات التجربة ماثلة فى المشهد. تبنت الجماعة ووظفتها فى النزاع المصرى السعودى بعد أزمة (1954). جرى شبه دمج لقيادات الجماعة فى بنية مؤسسات المملكة وفتحت أمام كوادرها فرص العمل واستخدمت قطر جراجا خلفيا للمحسوبين عليها. لم تكن للجماعة مواقفها المستقلة وبدا صوتها صدى للسياسة السعودية. فى بدايات عهد «أنور السادات» طرح رجلان فكرة عودة الجماعة لموازنة الناصريين واليساريين فى المعادلات السياسية المصرية هما: «كمال أدهم» الرئيس القوى للاستخبارات السعودية و«عثمان أحمد عثمان» المقرب من الحكم. فى العودة إلى مصر توثقت العلاقات بصورة أكبر بين المملكة والجماعة ومكنتها الثروات الهائلة التى حازتها الأخيرة من مد نشاطها إلى الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية لملء فراغ انسحاب الدولة منها ودعم حضورها فى بنية المجتمع المصرى. وصل التنسيق الثلاثى ما بين دولتى مصر والسعودية وجماعة الإخوان المسلمين ذروته فى حرب أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتى وباسم الجهاد فى سبيل الإسلام. الولاياتالمتحدة خططت والسعودية مولت والجماعة دعت الشباب من فوق منابر المساجد للقتال فى أفغانستان والدولة المصرية سهلت إجراءات المغادرة. فيما بعد دفع الرئيس «السادات» حياته ثمنا لرهانه على الجماعات الإسلامية فى مواجهة خصومه السياسيين ودفعت السعودية ثمنا فادحا من أمنها بعد أن انتهت الحرب فى أفغانستان ودفعت الولاياتالمتحدةالأمريكية ثمنا فادحا آخر للعبة ذاتها وصل ذروته فى قصف برجى التجارة العالميين فى نيوريوك. بدأت السعودية تتساءل عن حقيقة صلة الجماعة بتنظيمات العنف الجديدة وظلت التساؤلات معلقة فى الفضاء السياسى. بعد ثورة يناير (2011) دخلت الشكوك المرسلة إلى حيز الوقائع المثبتة، وكان مثيرا أن الإدارة الأمريكية راهنت على الجماعة وحاولت بدرجات مختلفة أن تنفض يديها من الحلفاء الاستراتيجيين! اتسعت الشكوك إلى فوالق، فالأمر يتعلق بمستقبل النظم الخليجية. امسكت الجماعة بمفاصل السلطة فى مصر وتونس واتسع نفوذها فى ليبيا ودول مغربية أخرى وتبدى حضورها فى المشرق العربى وحروبه الأهلية بينما «حماس» فى غزة تعلن البيعة والولاء، وتركيا تؤكد تحالفها، وإيران تمد جسورها. دعتها سكرة الحكم إلى تصادم مبكر مع الحلفاء الخليجيين وتصورت أن بوسعها أن تمد سلطانها إلى دول الخليج وتغير من طبيعة نظمها التى طالما تحالفت معها. القرار السعودى ضربة شبه قاتلة للجماعة ردا على ضربة أخرى استهدفت وجود المملكة. فى الدعم السعودى الإماراتى غير المسبوق لتحولات (30) يونيو استثمارا استراتيجيا لتثبيت النظم الخليجية من ناحية وأن تكون مصر واقفة على قدميها لموازنة الصعود الإيرانى المحتمل فى معادلات المنطقة. فى سياق الحوادث ما يوحى بأن التدفقات المالية الخليجية على السلطة فى مصر سوف تأخذ منحى تصاعديا، فالقضية تتجاوز الاعتبارات الأخوية العربية على أهميتها إلى رهانات معارك كسر العظام التى تتعلق بها مصائر النظم والدول. وفى السياق ما يوحى باحتمالات إعادة صياغة البيت الخليجى على نحو مختلف. حلحلة الحرج الكويتى والتحفظ العمانى فى مناهضة مكامن قوة الإخوان فى الخليج ودفع قطر فى الوقت نفسه إلى زاوية العزلة بمحيطها الطبيعى وما بعد العزلة حسابات أخرى. وفى السياق ما يشير إلى صراعات محتملة وجديدة على مستقبل النظام الإقليمى العربى ومراكز النفوذ والتأثير فى الجامعة العربية. اجتماع وزراء الخارجية العرب اختبار أول، وقمة الكويت فى الشهر نفسه اختبار ثان، وفى العلاقات البينية بين الدول العربية اختبار ثالث. ما بعد المنعطف حسابات جديدة قصدها القرار السعودى أو لم يقصدها فإن حقائقها سوف تعلن عن نفسها فى المشهد العربى المحتقن.