كل شىء فى مصر يجرى عفو الخاطر.. لدينا أحدث وأقوى آلات وبرامج العشوائية المنظمة فى كل أمور حياتنا، من السياسة إلى التعليم حتى إنفلونزا الخنازير. بالأمس أفقنا على كابوس وفاة أول مصرية مصابة بفيروس إنفلونزا الخنازير، لنكتشف أن كل الكلام الفخيم عن الاحتياطات والخطط وإحكام الرقابة على المنافذ والانضباطية فى إجراءات الحجر الصحى بالمطارات ليس إلا أوهاما اخترعناها ورددناها على أنها حقائق، ثم نمنا مطمئنين قريرى الأعين. وأول أمس باغتنا مولانا شيخ الأزهر بمفردات مبتكرة، مزيدة ومنقحة، من قاموسه الذى لا ينضب أبدا بما فيه من طرائف وعجائب، حيث قال لا فض فوه «قطيعة تقطع بيريز واللى يعرفه لعنة الله عليه». وحاول الإمام الأكبر أن يقنع مستمعيه فى الإسكندرية بأنه لا حول له ولا قوة فى مسألة الجلوس مع رئيس الكيان الصهيونى على مائدة واحدة فى مؤتمر حوار الأديان بكازاخستان.. وأن بيريز لعنة الله عليه وفقا لكلمات الإمام «دخل على سهوة وشد كرسى وقعد». جميل أن يكون هذا رأى إمام المسلمين فى قاتل صهيونى بدرجة رئيس، لكنه للأسف رأى عشوائى جدا، وعفو الخاطر لأقصى درجة، ناهيك عن أنه جاء متأخرا للغاية، وكان الأحرى أن «يمارس» مولانا شيخ الأزهر رأيه بشكل عملى ويطبقه على أرض الواقع وفى التوقيت الصحيح، وليس بعد خراب مالطا. ولم يكن الأمر ليكلفه شيئا لو انسحب من منصة الحوار، خاصة أن المؤتمر كما قيل كان لزعماء الأديان، وفى حدود معلوماتنا ومعلومات الشيخ أيضا أن بيريز يصلح ليكون زعيم عصابة من القتلة وسجله حافل فى هذا المجال، ومن ثم كان من المتاح أمام الإمام الأكبر أن يسجل موقفا تاريخيا بالانسحاب من «القعدة» أو إبداء الاعتراض على وجود الرئيس الإسرائيلى باعتباره ليس من زعماء الأديان. وأظن أن شيخ الأزهر سيد العارفين بأن الانسحاب فى هذه الحالات لا يعد هروبا أو جبنا عن المواجهة، بل هو انسحاب إيجابى ودال وأقرب إلى الهجوم، غير أننا للأسف خط هجومنا بلا فاعلية، كما أن دفاعنا مهلهل، وبلا حارس مرمى تقريبا.. أى باختصار نتمسك بعشوائيتنا المنظمة إلى أقصى مدى. غير بعيد عن دائرة العشوائية حالة السيدة التى وافتها المنية بإنفلونزا الخنازير. حيث كشفت أن كل ما قيل عن تشديد الرقابة على المطارات والمنافذ، وتحرى أعلى درجات الوقاية فى الحجر الصحى ليس أكثر من تصريحات إعلامية؛ وفق أحدث مواصفات «العشوائية». هو مجرد «شو» لزوم التصوير أمام وسائل الإعلام لكى نقول إن كل شىء تمام وتحت السيطرة، وكان أول خروج على القوانين والتدابير الوقائية من جانب وزير الصحة شخصيا، حين رفض الخضوع لإجراءات الكشف والفحص فى المطار لدى عودته من مناسبة عالمية لمناقشة سبل التصدى لوباء إنفلونزا الخنازير، بحجة أنها كانت تجربة افتراضية مقصودا بها تمثيل الجدية والصرامة أمام المواطنين. تلك الرسالة العملية من وزير الصحة للموظفين المسئولين عن تطبيق القواعد والإجراءات بصرامة كان معناها أننا نمثل على أنفسنا وعلى العالم ونقطِّب جبيننا إمعانا فى إظهار الجدية، بينما نحن فى أعماقنا نهرج.. ونضحك حتى نموت على أنفسنا من الضحك.