لى مدى سنوات كانت الصور الفوتوغرافية عن لبنان تبرز أبنية دمرتها عمليات قصف أو تحكي مآسي أناس من الناحية الإنسانية، غير أن أرشيفا من الصور يعود للفترة بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي يكشف صورة مغايرة تماما، بل يعتبر بمثابة سجل لحياة خفية عن أعين الكثيرين.بدأ المصور هاشم المدني في التقاط الصور الفوتوغرافية عام 1948 باستخدم كاميرا صندوقية في غرفة معيشة والديه، وبعد سنوات استطاع أن يفتتح له استوديو لممارسة المهنة، حيث كانت يلتقط الصور الخاصة لبطاقات الهوية الشخصية وصورا للأطفال وحديثي الزواج ومجموعات الأصدقاء. كانت يتجول في فترة ما بعد الظهيرة الهادئة بحثا عن زبائن في المتاجر والورش وعلى الشواطئ وحتى داخل السجون المحلية. كانت ذورة مجد المدني، الذي يبلغ من العمر حاليا 86 عاما، في فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حيث كان يستقبل نحو مئة زبون يوميا في الاستوديو الخاص به الكائن في مبنى شهرزاد التسوقي في مدينة صيدا الساحلية. ثم اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية كما غزت القوات الإسرائيلية في عام 1982 الأراضي وضربت قذيفة نافذة الاستوديو أسفرت عن مقتل صديق له وتضررت مهنته التي واجهت صعوبات في التعافي بعد ذلك. لكن بعد 16 عاما خرج الفنان اللبناني من محنته عندما بدأ الفنان أكرم زعتري، الذي تحظى معارضه وأعماله التي تتضمن صورا تاريخية بشهرة عالمية، البحث عن صور تاريخية لسيارات، وكان استوديو شهرزاد يزخر بالعديد من صور مصلحي السيارات والعديد من الأشياء الأخرى. فكان ذلك بمثابة الإلهام. لم يكن ذلك توثيقا من المدني لنحو 90 في المئة من سكان بلدته خلال خمسة عقود فحسب، بل كان هناك بعض الصور الاستثنائية في مجموعته. كان الاستوديو بالنسبة للشباب في تلك الفترة بمثابة فرصة لاستعراض حركات المصارعة فرصة كبيرة كان الاستوديو بالنسبة للشباب في تلك الفترة بمثابة فرصة لإبراز العضلات وارتداء زي رعاة البقر الذي كان شهيرا في ذلك الوقت وايضا استعراض حركات المصارعة أمام عدسة الكاميرا. ويقول زعتري إن ذلك كان أمرا عاديا في خمسينيات القرن الماضي، "إن أردت التقاط صورة لك، فحينئذ تغتنم الفرصة لخلق شئ مختلف لنفسك. كان (الناس) يحبون أن ينظروا إلى أنفسهم كما لو كانوا ينظرون إلى نجم أفلام سينمائية"، كان شيئا ممتعا. كانت الأفلام السينمائية مصدرا خصبا لإلهام مرتادي استوديو المدني من الزبائن. وكان من بين اللقطات التصويرية تمثيل عملية تقبيل تجمع شخصين، لكنها كانت بين رجال فقط و نساء فقط. قال المدني لزعتري "في ظل مجتمع محافظ مثل صيدا، كان الناس يقبلون بعضهما من نفس الجنس، ونادرا ما كان يجري ذلك بين رجل وسيدة"، ويتذكر أن ذلك حدث مرة واحدة فقط. وأضاف "إذا نظرت إلى هذه الصور في وقتنا الراهن ستسأل، أهذه ثقافة لمثليي الجنس؟ لكن بالطبع لا. كانت القيود الاجتماعية مختلفة في ذلك الوقت، فإن كنت ترغب في تقبيل أحد فلن يكون مقبولا سوى تقبيل شخص من نفس جنسك." المدني: "في ظل مجتمع محافظ مثل صيدا، كان الناس يقبلون بعضهما من نفس الجنس" كان الرجال يبرزون صورهم، عكس الوضع بالنسبة للنساء حيث كانت الصورة تتسم بالحميمية ولا يمكن تداولها إلا مع القلة التي تحظى بالثقة. ومازال يحتفظ المدني بنسخة الصور الفوغوتغرافية السالبة التي تعرضت لخدوش من بينها تلك التي تحكي مأساة السيدة بكاري وزوجها الغيور الذي هدد بتدمير المحل وطلب نسخة الصور السالبة عندما علم بصور زوجته. لكن المدني رفض تسليمه الصورة السالبة وقال :"اتفقنا في النهاية على خدش الصور السالبة لزوجته باستخدام قلم، وفعلت ذلك أمامه." لكن الحياة كانت قاسية على السيدة بكاري التي انتحرت بعد ذلك. وأضاف المدني "بعد سنوات من ذلك وبعد أن احرقت (السيدة) نفسها وماتت هربا من مأساتها، جاء (زوجها) وطلب مني تكبير هذه الصور، كان يبكي عندما شاهد الصور للمرة الأولى." يحتفظ المدني بنسخة الصور السالبة التي تعرضت لخدوش من بينها صورة السيدة بكاري الصورة والسياسة كان للسياسة دور في الصور التي التقطتها عدسة المدني على مدى سنوات، لكنه لم يتعرض لمشكلات من السلطات، وأقرب حدث يتذكره عندما التقط صورا لاحتجاج مناهض للرئيس كميل شمعون وجاء الجيش إلى مكتبه يطلبون الصور السالبة. كان أرشيف المدني يحتوي أيضا على صور لعملاء تابعين للاستخبارات السورية وحزب البعث العراقي الذي كان له مكتب في المبنى. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، أطلق أفراد لحاهم حزنا عليه، و"جاءوا لالتقاط صور بوجوه حزينة، وكانت سمة الحزن سائدة في ذلك الوقت عندما مات عبد الناصر." لم يرفض المدني التقاط صور لأحد على الإطلاق، وقال "دعني أخبرك بشئ تعلمته، إن كنت صبورا وتتحدث بلطف مع الأخرين، حينئذ سيحبك العالم." قرر زعتري الاقتراب من حياة المدني وعمله كما لو كان بحث في التنقيب عن الآثار. كانت بداية تعاون أثمرت عن معرض لصور في شتى أرجاء العالم. قال زعتري "أنا مهتم بشدة بالدور الذي يلعبه الشخص والحميمية مع التاريخ، وما أفعله هو صياغة للتاريخ، أو (ملء) ثغرات التاريخ من خلال استخدام وثائق مصورة." قرر زعتري الاقتراب من حياة المدني وعمله كما لو كان بحث في التنقيب عن الآثار وأضاف "أشعر بمزيد من الحرية من خلال مقارنة عصور قديمة بعصري الراهن. هذا أيضا مشكلة تواجهني عند النظر لانتفاضات الربيع العربي اليوم في وسائل الإعلام. لا أعرف حتى الآن أين ستقودني. فالأمر مع هاشم المدني يدفعني إلى القول بأن هذا نتاج عمل امتد 55 عاما في استوديو شهرزاد، لكن لا استطيع أن أقول نفس الشئ عن أمر مازال مستمرا، لا أفهم." من جانبه لا يؤمن المدني بالتقاعد قائلا "البقاء في المنزل يصيبني بالملل والتعب. خلال النهار أذهب إلى الاستوديو الخاص بي وأفتش في ذكريات الماضي. أحن إلى الماضي وأرغب في استعادة هذه الأيام. أنام أربع ساعات في اليوم، وأعمل بقية الوقت." ومازال المدني يلتقط صورا حتى الأن ولكن باستخدام آلات تصوير رقمية حديثة. ويفخر المدني باختيار زعتري له في البحث، كما يعرب عن سعادته بمواصلة رؤية أعمله، حيث يرافق الفنان في معارض دولية.