صرخ الجميع «مات مانديلا.. مات مانديلا..» تصدر الخبر صدارة جميع نشرات الأخبار.. مات مانديلا.. هل حقيقة مات هذا العملاق الأسود الذى يعد أيقونة للحرية؟! لا، إن مانديلا الذى أعرفه وكما أعرفه لا يموت.. إن الذى مات هو مانديلا البشر، ولكن مانديلا الذى عرفته وشاركت معه ومع كل أبناء شعب جنوب أفريقيا الرقص احتفالا بفوزه فى يناير 1994 برئاسة جنوب أفريقيا، ليكون بذلك أول رئيس أسود لهذه الدولة، لم يمت وأدعو الله ألا يحدث. إن مانديلا الذى أعرفه ليس بشرا يحيا ويموت ويأكل ويشرب، ولكنه رمز واعتقاد. رمز للكرامة الإنسانية.. للإيمان بعقيدة السلام ونبذ العنف.. للمصالحة الوطنية والتسامح باعتبارهما السبيل الوحيد لبناء الوطن وإعداد جيل جديد يستند إليه الوطن فى تحقيق التقدم والرفعة.. إن مانديلا هو التجسيد للدفع بالغالى والرخيص فى سبيل تحقيق الحرية ورفض الظلم والإضطهاد والتمييز. لقد وقف العالم كله للدفاع عن مانديلا والمطالبة بالإفراج عنه، سموا الشوارع باسمه، تغنوا باسمه وأقاموا الحفلات الغنائية تمجيدا له، كل ذلك دون أن يروا له صورة حديثة حيث حرص من اعتقلوه على عدم نشر أى صورة له منذ اعتقاله وحتى الإفراج عنه. فهو لم يكن سوى رمز لكفاح شعب بأكمله وإيمانا ترسخ فى أذهان أحرار العالم. كانت أول معرفتى بمانديلا (أو ماديبا أو تاتا كما يلقبه أبناؤه فى جنوب أفريقيا) خلال أول زيارة قام بها عقب الإفراج عنه لمصر، ضيفا على القمة الإفريقية التى استضافتها مصر عام 1993. وجدت فيه شخصية جميلة جذابة تتسم بالتواضع الشديد، لا تفارق الابتسامة وجهه، تشع منه طاقة إيجابية يشعر بها كل من حوله. لم يكن مانديلا قد تولى بعد رئاسة بلاده، ولكنه كان زعيما، طويل القامة، عظيم القيمة. اوضح مانديلا خلال تلك الزيارة حجم تقديره للدور الذى قامت به مصر لدعم حركة تحرير المؤتمر الوطنى الأفريقى التى يرأسها، وهو الدعم الذى لم يقتصر على الدعم المادى والعسكرى والمعنوى ولكن أيضا الدعم الدولى فى جميع المحافل الدولية والمنظمات حتى نجحت فى فرض المقاطعة الدولية على النظام الحاكم فى بريتوريا، نظام الأبارتيد. المرة الثانية التى التقيته فيها كانت بعد نقلى إلى جنوب أفريقيا، رئيسا لمكتب التمثيل المصرى فى بريتوريا، وذلك قبيل الانتخابات التى فاز فيها مانديلا برئاسة بلاده كأول رئيس أسود منخب ديمقراطيا. ونزل مانديلا إلى الشوارع مع أبناء شعبه ونزلنا معهم شركاء فى تحقيق حلم أفريقيا كلها بل حلم العالم الذى تجسد فى هذا الزعيم الذى أكلت السجون سنين عمره حتى جسد الحلم. أما المرة الثالثة فكانت بعده بشهور قليلة فى مناسبة دولية تاريخية، وهى حفل تنصيب نلسون مانديلا رئيسا. وبالرغم من جلال وفرحة المناسبة إلا أننى كمصرية أمثل بلادى رسميا، كنت أشعر بغصة فى حلقى. كان الرئيس مبارك رئيسا لمنطمة الوحدة الأفريقية وكان د. بطرس غالى أمينا عاما للأمم المتحدة، وتقرر أن جلى كل من الرئيس مبارك ود. بطرس عل جانبى الرئيس مانديلا، فى احتفال تذيعه كل تليفزيونات العالم ويشارك فيه كل ملوك وزعماء العالم، يجلسون فيه على مقاعد المتفرجين بينما المصريين على المنصة بجانب مانديلا. ولكن شاءت الجهات الأمنية أن تحرمنا هذه الفرحة بعد أن أقنعت الرئيس مبارك بعدم المشاركة لوجود مخاطر أمنية. مثل مصر فى المناسبة وزير الخارجية القدير عمرو موسى، وكان من الواضح أن هناك قدرا من عدم الرضا عن الغياب المصرى على مستوى القمة فى مثل هذه المناسبة. جاءت المناسبة التالية للقاء الزعيم الجنوب أفريقى عندما رافقت السفيرة مشيرة خطاب فى تقديم أوراق اعتمادها كأول سفيرة لمصر لدى حكومة الأغلبية فى جنوب أفريقيا. وقد لقينا مانديلا ببشاشته المعهودة وترحيبه البالغ وروح الفكاهة التى أشعرتنا بالألفة وبالحميمية من أول لحظة. وكانت له فيما بعد العديد من المبادرات للتعاون مع مصر. هل مات مانديلا؟ أرجو أن تكون الإجابة بالنفى. فأنا شخصيا أنتظر ظهوره فى مصر. انتظر مانديلا المصرى الذى يظهر فيقود هذا الوطن الحبيب نحو تحقيق اللحمة الوطنية فى عملية أسهل كثيرا من تلك التى عاشتها جنوب أفريقيا التى كانت تدميها الانقسامات القائمة على اللون والعرق، حيث السجل المثخن بالجراح والدماء للمواجهات الدامية بين الأقلية البيضاء والأغلبية السوداء. فى مصر الوضع مختلف كثيرا، فكلنا نفس الشعب دون فروق. أنتظر مانديلا المصرى الذى وقف محذرا عقب اغتيال «كريس هانى» ثانى شخصية من حيث الشعبية بعد مانديلا فى الANC وما تلا ذلك من اندلاع لموجات من العنف والخراب والقتال وضع البلاد على شفا حرب أهلية أبناء شعبه قائلا: «لقد حزنا وغضبنا عن حق، ولكن يجب ألا نسمح لأنفسنا أن نقع فى براثن مكيدة الاستثارة التى يسعى من سلبونا حرياتنا لإيقاعنا فيها» وصرخ مناديا: «ألقوا أسلحتكم فى البحر ودعونا نعمل». لقد حول مانديلا حالة الانقسام والفرقة والفشل والعنف وأعمال القتل، إلى جلسات للمصالحة الوطنية فى مواجهة إنسانية غير مسبوقة بين مرتكبى هذه الجرائم وضحاياهم سواء كانوا من البيض أو من السود. ونجح فى إحداث التحول من الفشل إلى النجاح ومن العنف إلى السلم. كانت لدى مانديلا رؤية استرتيجية واضحة لمصلحة الوطن وكيفية تحقيقها بعيدا عن المصالح السياسية والأهواء الشخصية.. لذلك أنا أدعو الله أن يظهر سريعا «مانديلا مصر» ليردد ما طالب به ماديبا أبناء شعبه عندما ذكر: «دعونا ننس الماضى..دعونا نهتم بالحاضر والمستقبل»!