هناك فى آخر الدنيا كنت أحضر اجتماع مجلس إدارة إحدى الشركات العالمية. وقد كان الاجتماع متوترا بسبب شراء أحد أكبر المساهمين العالميين حصة فى الشركة. والمعروف عن هذا المساهم أنه يدخل مجلس الإدارة لإحداث تغييرات جوهرية (Activist Investor) وقد طلب هذا المساهم خلال اجتماع مجلس الإدارة مجموعة طلبات لتخفيض التكاليف من ضمنها تخفيض المرتبات للإدارة العليا وربط حوافز العاملين بالأرباح وتخفيض عدد العمالة الإدارية وغلق عدد من الوحدات الإنتاجية الخاسرة وتسريح العاملين بها ووقف سفر كبار المديرين فى الشركة بالطائرات الخاصة على نفقة الشركة وضبط التكاليف الاستثمارية لمشروعات الشركة وسبل الوصول إلى إنتاجية أعلى بالأصول الموجودة....إلخ. وأخرج هذا المساهم ورقة من جيبه توضح أن هذه الإجراءات سوف تؤدى إلى مضاعفة الربحية خلال عامين وأن ذلك سوف يؤدى إلى زيادة سعر السهم بنسبة 150% مما يعود بالنفع على أصحاب الشركة من المساهمين. وللأمانة فقد تعاطفت مع الكثير من مطالب هذا الرجل. وخلال المجلس كنت أفكر فيما سوف يحدث لو أصبح هذا الرجل عضوا بمجلس إدارة فى الكثير من الهيئات والشركات المصرية العامة. ووصلت إلى تصور أنه لن يحدث شىء لأن مجالس إدارات الهيئات الاقتصادية والشركات فى مصر تتكون من أغلبية ساحقة من المديرين والعاملين وهؤلاء لديهم مصالح قد تكون متناقضة مع مصالح أصحاب رأس المال (وزارة المالية بالنيابة عن الشعب). خاصة فيما يتعلق بخفض أعداد العاملين والمديرين ومرتباتهم وحوافزهم. ثم تبادر إلى ذهنى السؤال الآتى ما هو الانخفاض الذى حدث فى تكلفة المديرين والعاملين فى السنوات الثلاث الماضية؟ المؤكد أنه مع انخفاض حجم أعمال الكثير من الشركات نتيجة ظروف ما بعد 25 يناير، فإن هذه الهيئات خفضت بدلات وأعداد ومرتبات المديرين كما خفضت بدلات العاملين. وجاءتنى الإجابة سريعا فى معلومتين: الأولى هى أن تكلفة بند الأجور فى الموازنة العامة للدولة قد تضاعفت خلال 3 سنوات (وبالطبع فإن ذلك انعكس بالزيادة على مرتبات وبدلات وحوافز العاملين بالهيئات الاقتصادية فى الدولة) والثانية أن عمال إحدى شركات الغزل يطالبون «بحصتهم فى الأرباح» لشركة تخسر سنويا ما يزيد على 100 مليون جنيه. اليسار المصرى سوف يقول طبعا إن من حقهم أن يأخذوا أرباحا. فهم غير مسئولين عن قرارات إدارية متراكمة لمجالس إدارة متلاحقة أدت إلى خسائر الشركة وسياسات خاطئة لوزراء صناعة سابقين. وأنا أقول يعنى «نفلس» مؤسسات الدولة التى صرف عليها الشعب «دم قلبه» من أجل وزراء سابقين ومجالس إدارات أخطأت؟ وما زاد من المشكلة فى تاريخنا الحديث هو تسييس المؤسسات الاقتصادية للدولة. ومطالبة الدولة للمديرين ليس بأداء اقتصادى مرتفع ولكن بحشد الأصوات لمرشحى الحزب الوطنى ولاحقا حزب الحرية والعدالة، وبذلك أصبح المديرون غير قادرين على ضبط تكلفة الأجور لأنهم يعملون ألف حساب لأيام الانتخابات التى خلالها سوف يطلبون من العاملين أصواتهم وبالتالى فهم يقدمون «السبت» حتى يأخذوا «الأحد». وإضافة لذلك فإن المديرين والعاملين (وأعضاء مجلس الشعب) ضُغطوا فى ظل ظروف ضاغطة وبطالة مرتفعة فى مصر لتعيين أبنائهم وأقاربهم وزادت أعداد وأجور العاملين على حساب قدرة هذه المؤسسات على الاستمرار (viability). لن يكون هناك إصلاح حقيقى فى الهيئات الاقتصادية والشركات العامة إلا إذا نظرنا بصورة جدية لتكوين مجالس إدارات تلك الشركات والهيئات الاقتصادية. إن المحافظة على أغلبية ساحقة للمديرين والعاملين فيها هو الخطأ بعينه. المساهمون فى هذه الهيئات والشركات (وزارة المالية بالنيابة عن الشعب) يجب أن ينيبوا آخرين لتمثيلهم فى مجالس إدارات الشركات والهيئات على أن يكون تمثيل الإدارة والعاملين أقل من الثلث. إن التمثيل المناسب لمجالس الإدارات يعطى صاحب رأس المال وذوى الخبرة الحصة الكبرى فى مقاعد مجلس الإدارة هو أحد المفاهيم التى يجب إرساؤها. إن ضمان حد أدنى من الحياة الكريمة للعاملين فى الدولة أمر فى غاية الأهمية وله وسائله ولكن ليس من بين هذه الوسائل إدارة هذه المؤسسات بطريقة غير كفؤة وفى بعض الأحوال قيادتها إلى الإفلاس. كما أن العدالة الإجتماعية لها أدواتها وليس من بينها استنزاف موارد هذه الهيئات. وهذا موضوع معنى العدالة الاجتماعية سوف نتطرق له لاحقا. إن أدبيات علم الإدارة مليئة بهذه الثنائية وتوصل العالم للحل وهو أن العاملين لديهم الحق فى الإضراب وأن مجالس الإدارة تكون ممثلة من المساهمين وتكون لها حق تعيين الإدارة والتى لها حق اتخاذ القرارات وهذا يخلق توازنا فى العلاقة. أما أن يكون للإدارة والعاملين أغلبية فى مجلس الإدارة ولهم حق الإضراب فإن ذلك خلق وضعا أصبحت معه هذه الهيئات تدار بطريقة خاطئة وأصبح من غير الممكن تخفيض أعداد العاملين والمرتبات حتى لو اقتضى الأمر ذلك فى ظروف طارئة. وأصبح من الأسهل استنزاف الشركات والهيئات (وقيادتها للإفلاس) بدلا من اتخاذ إجراءات صعبة. أعلم مسبقا أن هذا الكلام سوف يثير كثيرا من الجدل ولكن الشعب المصرى استثمر ما يزيد على تريليون جنيه فى أصول الهيئات الاقتصادية والشركات العامة ومثله مثل عضو مجلس الإدارة «المشاغب» الذى يريد إحداث تغييرات جوهرية هو يريد عائدا على رأسماله المستثمر. الشعب يريد تغيير نظام اقتصادى (وسياسى) غير كفء إلى نظام مبنى على الكفاءة فى الإدارة. مصر تستطيع أن تكون «قد الدنيا» ولكن إرساء مفاهيم جديدة لإدارة هيئات الدولة بطريقة كفؤة هو جزء من الحل.