الاستثمار فى مصر فى فخ. فالدولة غير قادرة على التنمية لأن العجز الضخم فى الموازنة العامة للدولة لا يسمح للدولة بالاستثمار ولأن مؤسسات الدولة ضعيفة ورغبة وقدرة القطاع الخاص فى الاستثمار لأسباب كثيرة فى أضعف أحوالهما، والاستثمارات الأجنبية إذا استثنينا حكومات الإمارات والسعودية لن تأتى إلا بعد الانتهاء من خارطة المستقبل. ولذلك فإننا ندفع ثمن ضعف الاستثمارات فى صورة معدلات نمو ضعيفة ومعدلات بطالة مرتفعة. هذا المقال بداية سلسلة من المقالات عن أسباب ضعف المؤسسات الاقتصادية للدولة. وسوف أبدأ هذا المقال بقصة صغيرة. فلتتصور سيدى القارئ فصلا دراسيا ذاكر فيه نصف الفصل من التلاميذ واجتهدوا وأن هؤلاء حصلوا على متوسط درجات 90% ولتتصور أن نصف الفصل الآخر لم يذاكر وأن هؤلاء التلاميذ حصلوا على متوسط درجات 30%. ولنتصور أن الناظر قرر بعد نهاية الامتحانات وقبل إعلان النتيجة أن كل الفصل سوف يحصل على الدرجات المتوسطة وهى 60%. هذه قصة بقيتها أن التلاميذ الذين لم يذاكروا هللوا وهتفوا «يحيا العدل» وصمت الذين ذاكروا لأنهم لا يريدون إلحاق أذى بالذين سقطوا! فى العام التالى قرر جزء من الذين ذاكروا فى العام السابق ألا يذاكروا لأنهم سوف يحصلون على الدرجة المتوسطة فى كل الأحوال. ولكن جزءا من الفصل ذاكر لأنه كان يتشكك فى نوايا الناظر وما إذا كان سيتخذ نفس القرار. فإذا ب40% من الفصل يحصلون على متوسط درجات 88%، و60% من الفصل يحصلون على متوسط درجات 28%. وقرر الناظر مرة أخرى بعد نهاية الامتحانات وقبل إعلان النتيجة أن كل الفصل سوف يحصل على الدرجات المتوسطة وهى 52%. وفى الأعوام التالية حدث نفس الشىء. خلال عشر سنوات استمر انخفاض متوسط الدرجات فى الفصل إلى أن أصبح كل التلاميذ فى الفصل فى وضع أسوأ ومتوسط الدرجات ينخفض عاما بعد الآخر. هذا المثال يوضح بالضبط ما حدث فى مؤسسات الدولة. إننا لم نحاسب من لم يتخذ قرارات فى الوقت المناسب (كما أوضحت فى المقالين السابقين بمثالين من عشرات الأمثلة التى ممكن أن أسردها) وحاسبنا من اتخذ قرارا وأخطأ ولم نحفز الذين اتخذوا قرارات وأصابت. وبالتالى أصبح الكل «سواسية». المجتهد والفاشل (وأعنى كلمة الفاشل). فإذا كانت هذه هى المعادلة، فلماذا يتخذ أى مسئول قرارا؟ الأسلم هو أن «يُعدى الوقت». إن مؤسسات الدولة أصبحت تدريجيا مليئة بمسئولين يتفاخرون بأنهم لم يوقعوا على ورقة أثناء مدة خدمتهم. نحن لم نعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى من اجتهد فى عمله «فإن اخطأ فله أجر الاجتهاد وإن أصاب فله أجران أجر الاجتهاد وأجر الإصابة». ما هو أخطر أننا ساوينا بين من أخطأ وبين من أجرم. بين من اتخذ قرارا بعد دراسة واجتهاد ثم ثبت خطؤه بعد التنفيذ وبين من اتخذ قرارا «لغرض ما» وهو يعلم مسبقا أنه قرار خطأ. و«قررنا» أن كل من أخطأ فعل ذلك عن عمد وعن سوء نية. إن تُهم «إهدار المال العام» و«تربيح الغير» جاهزة للاستخدام للذين اتخذوا قرارات بحسن نيه ثبت خطؤها. إن بداية الإصلاح لن تتأتى بدون حماية الموظف العام. يجب أن يُصدر قانون فورى بعدم جواز محاسبة الموظف العام على هذه التهم بدون إثبات «بما لا يدع مجالا للشك أن ثروته تضخمت نتيجة قرار اتخذه». وأن يتم إثبات تضخم الثروة قبل الإحالة للمحاكمة.إن الإحالة إلى الجنايات «تحتوى فى نفسها دليل شك» وهى قاسية بالنسبة للشرفاء. إن مقولة المتهم برىء حتى تثبت إدانته غير حقيقية فى واقعنا الحالى خاصة فى ظل تأخير الأحكام كما هو حادث الآن. مصر فعلا تستطيع أن تكون «قد الدنيا» ولكن إعمال مبدأ الثواب والعقاب بطريقة صحيحة هو جزء من الحل.