نعود إلى البدايات: من بين مقومات وعوامل عديدة أخرى، يتطلب استقرار التنظيم الديمقراطى للدولة وللمجتمع وكذلك نجاح مسارات التحول الديمقراطى بيئة إقليمية ودولية مواتية. فالديمقراطيات لا تعيش فى فراغ جغرافى، والتحول الديمقراطى لا يقطع الصلة بين الدول والمجتمعات التى يحدث بها وبين جوارها. وللبيئة الإقليمية المواتية للديمقراطية عناصر أساسية تتمثل فى: 1) غياب الحروب والمواجهات العسكرية ومحدودية الصراعات والتوترات إن بين دول الإقليم المعنى أو بداخلها. 2) حضور بعض الديمقراطيات المستقرة أو مسارات التحول الديمقراطى الناجحة على نحو يترجم إقليميا المبادئ والقناعات العامة المتعلقة بأفضلية التنظيم الديمقراطى للدولة وللمجتمع على ما عداه. 3) وصول بعض الديمقراطيات المستقرة أو الدول المتحولة للديمقراطية إلى معدلات تنمية بشرية ومجتمعية واقتصادية جيدة وتطوير تعاونها المشترك ودفاعها عن السلم الإقليمى على نحو يمكن الديمقراطية من الإشعاع إقليميا كالأقدر على صون الكرامة الإنسانية وتحقيق الرخاء والعدالة الاجتماعية. 4) امتناع نظم الحكم المستبدة والسلطوية حال تواجدها فى الإقليم المعنى عن مناهضة الديمقراطيات أو تعويق مسارات التحول الديمقراطى. 5) تبلور ثقافة شعبية فى الإقليم المعنى تؤمن بأفضلية الديمقراطية وبأهمية صون الحريات وحقوق الإنسان وبضرورة المطالبة بإنجاز التحول الديمقراطى وتمكين المواطن من الاختيار الحر والمشاركة فى إدارة الشأن العام. أما البيئة الدولية، ولكى تساعد الديمقراطيات على الاستقرار ومسارات التحول الديمقراطى على النجاح، فتستدعى التزاما واضحا بالعناصر التالية: 1) معايير واضحة وغير مزدوجة لجهة الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان وإدانة الانتهاكات. 2) البحث عن التوفيق بين هذه المعايير وبين المصالح الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية والتجارية للدول الكبرى ذات النفوذ فى البيئة الدولية. 3) التعامل مع نظم الحكم المستبدة والسلطوية كشر لم تتخلص منه البشرية بعد لا بديل عن محاصرته واحتوائه وليس دعمه وتمكينه من البقاء. 4) العمل على دعم الديمقراطيات الناشئة والدول المتحولة إلى الديمقراطية دون تجاهل شرط السيادة الوطنية. 5) تقديم الديمقراطيات المستقرة دوليا، خاصة ديمقراطيات الدول الكبرى، نموذجا إيجابيا فى التعاون المشترك والدفاع عن السلم العالمى والامتناع عن التورط فى حروب أو صراعات وكذلك فى حفاظ كل منها على الحريات وحقوق الإنسان. والحال أن مثل هذه البيئة الإقليمية والدولية المواتية توفرت فى حدود معقولة لدول جنوب أوروبا (إسبانيا والبرتغال واليونان) حين بدأت مسارات تحولها الديمقراطى فى سبعينيات القرن الماضى، وتبلورت أيضا فى بداية التسعينيات لجهة تحولات أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية وبعض الحالات الإفريقية وفى مقدمتها تخلص جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصرى. والحال أن عناصر البيئة الإقليمية والدولية المواتية تكاد تكون غائبة بالكامل عن مسارات التحول الديمقراطى فى الدول والمجتمعات العربية خلال الأعوام الماضية. فالحروب والصراعات الإقليمية والاحتراب الأهلى فى تصاعد، والديمقراطيات الناجحة سياسيا ومجتمعيا سراب مخادع ونظم الاستبداد والسلطوية تدعم بعضها البعض وتعوق مسارات التحول الديمقراطى وتحقق فى منطقة الخليج خاصة معدلات تنمية ورخاء مرتفعة، والمطالبة الشعبية بالحريات وحقوق الإنسان تنتقص منها كثيرا موجات الفاشية والعسكرة والخلط الزائف بين الدين والسياسة. أما دوليا فلا حضور إلا للمعايير المزدوجة ولتغليب مصالح الدول الكبرى على مبادئ وقيم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان (فالولاياتالمتحدة تتجسس على العالم وتعصف بسيادة القانون والحريات وتتورط فى انتهاكات لحقوق الإنسان منذ بدأت حربها على الإرهاب وغزوها للعراق وأفغانستان)، والتعاون مع نظم الحكم المستبدة والسلطوية يتواصل دون توقف أو مشروطية. دوليا أيضا لا حضور لدعم حقيقى لمسارات التحول الديمقراطى فى الدول والمجتمعات العربية حين تتعارض مع المصالح الرئيسية، ولا امتناع عن التورط فى حروب أو صراعات إقليمية وشهية الولاياتالمتحدة وإسرائيل عليها لم تنقطع بعد. غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.