أخيرا، وبعد نحو خمس سنوات من الانقطاع، تخللته بعض اللقاءات الاستكشافية، عاد الرئيس عباس إلى المفاوضات المؤقتة مع إسرائيل، لفترة حددت ب6 9 شهور، وهو مدرك أنها لن تذهب بعيدا مع حكومة اليمين فى إسرائيل التى رفضت، ليس فقط تجميد الاستيطان، وإنما أيضا التفاوض على حدود العام 67. فلماذا عاد عباس إلى مفاوضات كهذه ليس فيها أى أساس تفاوضى مشترك مع الطرف الآخر على الطاولة؟. عاد، ببساطة، لأن لديه مصلحة سياسية فى ذلك، التقت مع مصلحة شبيهة لدى كل من رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، والرئيس الأمريكى باراك اوباما. مصلحة عباس فى العودة إلى المفاوضات تكمن فى، أولا، العمل على إحياء شرعيته السياسية المتآكلة أمام غياب الانتخابات. وثانيا، فى إعادة بث الحياة فى الاقتصاد الفلسطينى المنهار، حيث تترافق العملية السياسية الجديدة مع خطة اقتصادية تهدف إلى ضخ أربعة بلايين دولار فى شرايين الاقتصاد. وتتضمن أيضا موافقة إسرائيل على قيام السلطة بمشاريع اقتصادية فى المنطقة الواقعة تحت إدارتها المدنية والأمنية والتى تشكل 60 فى المائة من مساحة الضفة الغربية. ومصلحته، ثالثا، فى إطلاق سراح أسرى ما قبل اتفاق أوسلو، الذين امضوا بين 20 32 عاما فى السجن، وتشكل عودتهم إلى بيوتهم إنجازا كبيرا للرئيس أمام التعاطف الكبير للشارع الفلسطينى معهم، وأمام ضعف إنجازاته السياسية والاقتصادية الأخرى. ولعباس، أيضا، مصلحة كبيرة فى تفادى إغضاب الإدارة الأمريكية التى تشكل المانح الأكبر للسلطة الفلسطينية التى تعانى ميزانيتها من عجز كبير يبلغ 40 فى المائة، وتفادى التعرض للوم الأوروبيين الذين مارسوا الكثير من الضغوط عليه كما لأمريكيين للعودة إلى المفاوضات التى لا يرون وسيلة غيرها لإدارة واحتواء الصراع الفلسطينى الإسرائيلى ومنعه من الوصول إلى الانفجار. ●●● عاد عباس إلى المفاوضات مدركا غياب البديل أمام ضعف الوضعين الفلسطينى العربى. فهو يقود السفينة الفلسطينية الهرمة والمتهالكة والمفككة فى بحر إقليمى متلاطم الأمواج. فالعالم العربى يتفكك وينهار بصورة دراماتيكية، وإسرائيل تسابق الزمن فى الاستيطان أينما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأمريكا منشغلة فى ملفات أخرى، ودور الاتحاد الأوروبى لا يتعدى الدور الوعظى، والاقتصاد الفلسطينى ينهار، وحال الفصائل الفلسطينية من حال السفينة الهرمة والمتهالكة والمفككة. فى هذا البحر المتلاطم لم يحقق عباس إنجازات سياسية لافتة، لكنه نجح فى قيادة الفلسطينيين دون دماء وانهيار، فى مشهد اقليمى ملىء بالدماء والانهيارات. استخدم الرئيس عباس فى السنوات الخمس الماضية مناورة ذكية فى محاولة وقف الاستيطان، مستغلا الأجواء التى أشاعها قدوم الرئيس اليسارى باراك أوباما إلى الحكم. فقد تعهد أوباما عند قدومه بالعمل شخصيا على وقف الاستيطان، معتبرا ذلك من المصالح القومية الأمريكية. لكنه فشل أمام سطوة اللوبى المؤيد لإسرائيل، وتراجع تاركا الرئيس عباس على الشجرة. ومصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو فى العودة إلى المفاوضات تكمن فى مواجهة العزلة المتنامية للدولة العبرية على الساحة الدولية. وجاء قرار الاتحاد الأوروبى الأخير القاضى بوقف كل أشكال التعاون مع إسرائيل والمؤسسات الإسرائيلية وراء خطوط العام 67 جرس إنذار كبير لنتنياهو. ومصلحة الإدارة الأمريكية تمكن فى مواصلة إدارة الملف الفلسطينى الإسرائيلى، والحيلولة دون انتقاله إلى يد أخرى، أو وصوله إلى الانفجار. بذل وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى خمسة شهور لإقناع عباس ونتنياهو بالعودة إلى المفاوضات. وكانت المقايضة الأخيرة هى: توقف عباس عن اللجوء إلى الأممالمتحدة، وعدم الانضمام إلى مواثيقها ومنظماتها المختلفة، مقابل موافقة إسرائيل على إطلاق سراح اسرى ما قبل اوسلو، وعددهم 104 أسرى. ●●● ستكون الجولة الجديدة من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية قصيرة، كأنها فاصل إعلانى، نعود بعده إلى المسلسل الطويل الذى لا ينتهى، فنتنياهو سيواصل الاستيطان، والرئيس عباس لن يجد لدى نتنياهو ما يقنع به شعبه لقبول مواصلة التفاوض مع حكومة لا تتوقف عن مواصلة نهب الأرض وتحويلها إلى المستوطنين، والإدارة الأمريكية التى فشلت فى إدارة الملفات الأخرى فى المنطقة من السورى إلى المصرى إلى الإيرانى ستفشل حتما فى إدارة هذا الملف.