تسلم أوباما بعد انتخابه مباشرة تقريرا بعنوان «فرصة أخيرة لاتفاق الدولتين»، أعدته مجموعة من المسئولين السابقين ممن عملوا لدى إدارات أمريكية مختلفة خلال ال40 عاما الماضية، وممن يحظون بمكانة أخلاقية وسياسية متميزة فى إطار الجدل السائد فى الولاياتالمتحدة بشأن السياسة الخارجية. ويترأس هذه المجموعة الجنرال سكوكروفت، مستشار الأمن القومى الأمريكى فى إدارة بوش الأب. وعملت هذه المجموعة على صياغة المذكرة على مدى تسعة أشهر قبل الانتخابات الأمريكية، استعدادا لتقديمها للرئيس المنتخب، ديمقراطيا كان أم جمهوريا. ويدعو التقرير إلى إحداث قطيعة مع السياسات السيئة التى اتبعتها إدارة جورج بوش، وإلى انخراط الرئيس الأمريكى فورا وبقوة فى جهود للوساطة من أجل التوصل إلى اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكان للتقرير وقع الموسيقى بالنسبة للعرب ممن آمنوا دائما بمحورية هذا الصراع وبأن التوصل إلى تسوية يعد شرطا أساسيا لأجل تهدئة جميع التوترات الأخرى فى المنطقة. لكن تبقى مسألة قبول الفلسطينيين والعرب لمحتوى التقرير كاملا وتوصياته، أمرا أبعد ما يكون عن التأكيد. وقد تعتبر أغلبية هؤلاء أن توصيات التقرير بشأن القدس واللاجئين والترتيبات الأمنية مخيبة للآمال إلى حد كبير. غير أن أهمية التقرير تكمن فى تحليله القائم على حسن النوايا للحقائق على الأرض، والعقبات الحقيقية فى طريق السلام، وإقراره بالأثر الحاسم للصراع على علاقة المنطقة بالعالم. كما تكمن أهمية التقرير فى إدراكه أن الإسرائيليين والفلسطينيين ليسوا فى وضع يسمح لهم بالبدء فى محادثات سلام، وأن الولاياتالمتحدة والرئيس الأمريكى ذاته يتحملان مسئولية خاصة بشأن البدء فى عملية الدفع لإنجاز التسوية. وبناء على إدراك التقرير للحقائق على الأرض، فقد أوصى بأن تصبح حماس جزءا من عملية التفاوض، وأن تغير الولاياتالمتحدة هدفها من الإطاحة بحماس إلى تعديل سلوكها، وتقديم إغراءات لها تشجع على ظهور رؤى معتدلة بين صفوفها، والتوقف عن منع أطراف ثالثة من الاتصال بحماس بطرق قد تسهل من اتضاح رؤى الحركة واختبار سلوكها. ويوصى التقرير بأن تشجع الولاياتالمتحدة على تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية، وأن تؤكد بوضوح أنه لا يجب مقاطعة أو معاقبة حكومة تقبل بوقف إطلاق النار مع إسرائيل، بقيادة الرئيس محمود عباس لعملية التفاوض، وتلتزم بنتائج الاستفتاء الوطنى حول مستقبل اتفاق السلام. وأخيرا ترى المجموعة وجوب نشر قوات متعددة الجنسيات بتفويض من الأممالمتحدة وقيادة أمريكية، بهدف ضمان الأمن فى الفترة الانتقالية. وبالطبع كان الخبر العظيم التالى هو انتخاب أوباما، واتضاح أنه يتشارك فى الرؤى مع تلك المجموعة، واعتزامه استثمار رأسماله الأخلاقى والسياسى لأجل التوصل إلى تسوية. والأهم من ذلك، أن الإصرار الذى أظهره أوباما أعطى أملا حقيقيا. ذلك أن الحسم والصرامة مطلوبان، إذا كان مقدرا للرئيس أن يحقق أى إنجاز فى مواجهة المقاومة التى تبديها إسرائيل، ومساعيها لصرف الأنظار عن القضايا الأساسية. وقد اجتاز أوباما أول اختبارين محققا بعض النجاح. فأولا، أبدى أوباما وضوحا وحسما عندما أعلن أن الاستيطان أمر غير قانونى، وطالب إسرائيل بتجميده كلية ودعونا نأمل ألا يخضع هذا الأمر للمساومة ويتقلص إلى حل وسط، يتضمن تجميدا جزئيا للاستيطان، فى ظل تأويلات مريبة لما يعنيه التجميد. ثانيا، ترفض الإدارة الأمريكية حملة نتنياهو لتعزيز مخاوف العرب من إيران. ويقول مساعدو أوباما العائدون من جولاتهم فى الشرق الأوسط إنه على عكس ما تحاول أن تنشره إسرائيل، لا يرى العرب التهديد الإيرانى بمثابة قضية تحتل أولوية، وتحتاج مواجهتها إلى شكل من أشكال الجبهة المتحدة، يتضمن تحالفا بين البلدان العربية وإسرائيل. على العكس من ذلك، وجد مساعدو أوباما أن السياسيات الإسرائيلية هى أكثر ما يقلق العرب. ونعلم أن المجموعة الأمريكية بكاملها تظل منخرطة عن قرب فى جهود السلام وتواصل تقديم المقترحات والدعم للبيت الأبيض عبر جورج ميتشيل، مبعوث أوباما الخاص للشرق الأوسط. وبالتوازى مع الجهود التى تبذلها المجموعة الأمريكية، رددت مجموعة أوروبية تضم 25 من رؤساء الدول والحكومات والوزراء السابقين صدى المبادرة التى طرحها نظراؤهم الأمريكيون. ذلك أنه عندما اتخذ وزير خارجية فرنسى سابق هو أوبير فيدرين، زمام المبادرة بدعوة هؤلاء المسئولين الأوروبيين السابقين إلى إعلان قبولهم للتقرير الصادر عن المجموعة الأمريكية وتأييدهم لسياسة أوباما، تحمسوا للتجاوب مع مبادرته، ووافقوا بلا تحفظ على الرؤية الواردة فى التقرير الأمريكى والاستراتيجية التى أوصى بها. ويُعرف الكثير من المسئولين الأوروبيين الموقعين على الإعلان بأنهم من مؤيدى إسرائيل. ولا يرى هؤلاء معنى لكتابة تقرير خاص بهم، يتضمن تعديلات طفيفة حول هذه النقطة أو تلك. والأهم من ذلك، يوافق هؤلاء على أن الإسرائيليين والفلسطينيين ليسوا فى وضع يسمح لهم بالبدء بأنفسهم فى عملية للتسوية. وفى هذا السياق، تتحمل الولاياتالمتحدة والرئيس نفسه مسئولية خاصة عن البدء فى عملية للتسوية السلمية، ترتكز على المبادئ التى تحظى بقبول الإسرائيليين والفلسطينيين. وفى تلك الأثناء، تبنى القادة الأوروبيون الحاليون نهجا مثيلا. فبمجرد أن شعروا بالرغبة الأمريكية غير المسبوقة فى الانخراط بجدية فى الجهود الرامية إلى تحقيق السلام، وجدوا أن الدور الأكثر فائدة الذى يمكن أن يلعبوه يتمثل فى الوقوف وراء أوباما بثبات. ومن ثم فقد حث كل من الرئيس الفرنسى ساركوزى، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء الإيطالى بيرلسكونى وهم جميعا يعرّفون أنفسهم باعتبارهم أصدقاء لإسرائيل رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو على تجميد جميع الأنشطة الاستيطانية فى الضفة الغربية. ورددت بياناتهم العلنية القوية صدى بيانات أوباما وهيلارى كلينتون. غير أننا لا نعلم ما إذا كان هذا الدعم الأوروبى للسياسة الأمريكية قد حدث تلقائيا أم أنه جزء من عملية منظمة للتنسيق مع واشنطن. وعلى أى حال، فقد خرجت اللجنة الرباعية الدولية التى اكتسبت سمعة سيئة فى عهد بوش بعد أيام قليلة من إعلان القادة الأوروبيين مواقفهم المؤيدة للإدارة الأمريكية، بموقف موحد يدعو إلى تجميد المستوطنات. وتعد هذه مجرد بداية لعملية طويلة. ويعلم الفلسطينيون أكثر من غيرهم مدى المرونة والصرامة المطلوبين كى تتزحزح إسرائيل عن موقفها. غير أن هذا الإجماع من جانب المجتمع الدولى يعتبر أمرا غير مسبوق. ويبدو أنه قد آن الأوان ليدرك العالم أن تحقيق التسوية لا يتعلق بمجرد رفع الظلم عن الفلسطينيين، كما أنه لا يعود إلى اعتبارات أخلاقية، لكنه يتعلق بإجراء تسوية حقيقية للمسألة اليهودية نفسها، التى يتحمل الأوروبيون المسئولية عنها. ذلك أن إحساس الأوروبيين بالذنب تجاه اليهود نظرا للمعاناة التى تعرضوا لها فى النصف الأول من القرن العشرين منع أوروبا من اتخاذ أى إجراءات جادة لمعاقبة إسرائيل على سلوكها خلال ال40 عاما الماضية. واليوم، يؤدى هذا الإحساس بالذنب نفسه بالأوروبيين والعالم إلى إدراك أن المسألة اليهودية لم يجر تسويتها إلى يومنا هذا، ولن يتم ذلك طالما لم تسو المسألة الفلسطينية بطريقة ترضى الفلسطينيين أنفسهم، لا إسرائيل وحدها.