من الأسهل فى هذه الأيام الملتبسة أن نعجب بالشجاعة المادية أكثر من الشجاعة الأدبية شجاعة العقل أو الشخصيات العامة. إن شخصا يرتدى قبعة رعاة البقر يقفز سياجا ليساعد ضحايا تفجير بوسطن، بينما يفر آخرون من المشهد نحيى شجاعته مثلما نفعل مع رجال الجيش العائدين من جبهة القتال أو الرجال والنساء الذين يجاهدون للتغلب على أمراض منهكة، أو إصابات. ولكن من الأصعب بالنسبة لنا أن نرى ساسة شجعانا هذه الأيام باستثناء نيلسون مانديلا وداو أونج سان سو كى. وربما رأينا الكثير جدا من التنازلات التى لا مفر منها عن السلطة. ولم يعد هناك أمثال غاندى أو لنكولن. ويعتبر البطل عند البعض (هوجو شافيز، فيديل كاسترو) شريرا لدى آخرين. ولم نعد نتفق بسهولة على معنى أن تكون طيبا أو مبدئيا أو شجاعا. وعندما يتخذ قادة سياسيون خطوات شجاعة كما فعل نيكولا ساركوزى عندما كان رئيسا لفرنسا فى ليبيا، من خلال التدخل عسكريا لدعم الانتفاضة ضد العقيد معمر القذافى، يشكك كثيرون فى أن هذه شجاعة. وصارت الشجاعة السياسية، فى الوقت الحاضر، غامضة غالبا.
بل إن الأغرب أننا صرنا نتشكك فى أولئك الذين يقفون فى وجه استغلال السلطة أو الجمود العقائدى.
●●●
لم يكن الأمر كذلك دائما فقد كان الكتاب والمثقفون الذين عارضوا الشيوعية، سولجينيتسين وساخاروف وغيرهما، محل احترام واسع النطاق لموقفهم. وكان الشاعر أوسيب ماندلستام موضع اعجاب كبير بسبب قصيدته الساخرة «ستالين» فى عام 1933، حيث وصف فيها الزعيم المخيف بتعبيرات لا تعرف الخوف «الصراصير الضخمة الضاحكة على شفته العليا» وقد أدت أسباب ليس أقلها القصيدة إلى اعتقاله ثم موته فى نهاية المطاف فى معسكر عمل سوفييتى.
ومؤخرا، فى عام 1989، أصبحت صورة رجل يحمل اثنين من أكياس التسوق ويتحدى الدبابات من ميدان تيانانمن رمزا عالميا للشجاعة.
ثم، تغيرت الأمور فيما يبدو؛ وراح «رجل الدبابة» فى طى النسيان فى الصين، فى حين نجحت السلطات الصينية فى تشويه المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية باعتبارهم من الثورة المضادة، بمن فى ذلك أولئك الذين لقوا حتفهم فى مجزرة الثالث والرابع من يونيو. ومازالت معركة التشويه مستمرة فى التعتيم أو على الأقل تشويش فهمنا للكيفية التى ينبغى أن نقيم بها الشجعان. وهذه هى كيفية تعامل السلطات الصينية مع منتقديها المعروفين: استخدام تهم «التخريب» ضد ليو شياوبو والجرائم الضريبية المزعومة ضد آى ويوى وهى محاولة متعمدة لطمس شجاعة الأشخاص وتصويرهم فى صورة المجرمين.
وبالمثل، فبسبب نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تم على نطاق واسع داخل روسيا تصوير عضوات فريق «بوسى رايوت» اللاتى حكم عليهن بالسجن فى صورة مثيرات للمتاعب غير أخلاقيات لأنهن أقمن عرضا على أرض تابعة للكنيسة. وضاع دفعهم بأن قيادة الكنيسة الروسية الأرثوذكسية قريبة الصلة بالرئيس فلاديمير بوتين على نحو لا يدعو للارتياح وسط العديد من منتقديهم ولم يعتبر تصرفهم شجاعا وإنما غير لائق.
وفى باكستان، قبل عامين، دافع سلمان تاسير، حاكم البنجاب عن آشيا بيبى وهى امرأة مسيحية حكم عليها بالإعدام خطأ بموجب قانون التجديف الصارم فى البلاد، ولهذا تم اغتياله من قبل أحد أفراد حرسه الخاص. وقوبل الحارس، ممتاز قدرى، بثناء واسع النطاق وتم إمطاره بالورود عندما مثل أمام المحكمة. ووجهت انتقادات هائلة إلى القتيل تاسير وتحول الرأى العام ضده. وأدت المشاعر الدينية إلى طمس شجاعته ووصف القاتل بأنه بطل.
وفى فبراير 2012، كتب الشاعر والصحفى السعودى حمزة الكشغرى ثلاث تغريدات عن النبى محمد: « فى يوم مولدك سأقول أننى أحببت الثائر فيك. لطالما كان ملهما لى، وأننى لم أحب هالات القداسة. لن أصلى عليك.»، «فى يوم مولدك أجدك فى وجهى أينما اتجهت، سأقول إننى أحببت أشياء فيك، وكرهت أشياء.. ولم أفهم الكثير من الأشياء الأخرى!». «فى يوم مولدك لن أنحنى لك.. لن أقبل يديك، سأصافحك مصافحة الند للند. وابتسم لك كما تبتسم لى، وأتحدث معك كصديق فحسب.. ليس أكثر».
وادعى بعد ذلك أنه «يطالب بحقه» فى حرية التعبير والفكر. ولم يجد مساندة من الرأى العام وتم التنديد به باعتباره مرتدا وكانت هناك دعوات كثيرة لإعدامه. ولا يزال الكشغرى فى السجن.
●●●
وقد تحدى الكتاب والمثقفون فى عصر التنوير الفرنسى التشدد الدينى فى زمنهم ومن ثم خلقوا المفهوم العصرى لحركة الفكر. ونحن نذكر فولتير وديدرو وروسو وغيرهم باعتبارهم أبطال الفكر. وللأسف لن يقول مثل هذا الكلام عن حمزة الكشغرى سوى قلة قليلة للغاية فى العالم الإسلامى.
وتنتشر هذه الفكرة الجديدة أن الكتاب والباحثين والفنانين الذى يقفون ضد التشدد أو التعصب يتسببون فى إزعاج الناس بسرعة حتى فى بلاد مثل الهند التى كانت تفخر من قبل بما فيها من حريات.
وفى السنوات الأخيرة، اضطر الفنان التشكيلى الهندى الكبير، مقبول فدا حسين، إلى العيش منفيا فى لندن ودبى، حيث توفى، لأنه رسم إلهة الهندوسية ساراسواتى عارية (على الرغم من أن التماثيل الهندوسية القديمة تظهر ساراسواتى غالبا وهى تتزين بالمجوهرات والحلى، فى الوقت الذى لا ترتدى فيه ثيابا).
وقد تم سحب رواية روهينتون ميسترى «هذه رحلة طويلة» من المناهج فى جامعة مومباى بسبب اعتراض المتطرفين المحليين على مضمونه. وهوجم الباحث أشيس ناندى بسبب تعبيره عن آراء غير تقليدية بشأن الفساد فى الطبقة الدنيا. وفى جميع هذه الحالات كانت وجهة النظر الرسمية التى اتفق معها العديد من المعلقين وشريحة كبيرة من الرأى العام ترى أن الفنانين والعلماء جلبوا المتاعب على أنفسهم. وصار يقال لأولئك الذين كانوا، فى عصور أخرى، يحترمون لأصالتهم واستقلالهم الذهنى: «إنكم تعكرون الصفو».
●●●
وليست أمريكا بمنأى عن هذا الاتجاه. فقد تعرض النشطاء الشباب من حركة «احتلوا» لأذى كبير (على الرغم من أن هذه الانتقادات خفتت قليلا بعد مشاركتهم بفعالية شديدة فى أعمال الإغاثة فى أعقاب إعصار ساندى). وغالب ما يوصف المثقفون الذين يغردون خارج السرب، مثل نعوم تشومسكى والراحل إدوارد سعيد، بأنهم متطرفون مجانين «معادون للولايات المتحدة»، بل إن إدوارد سعيد يوصف بأنه غرائبى، مثله مثل المدافعين عن «الإرهاب الفلسطينى». (قد نختلف مع انتقادات السيد تشومسكى لأمريكا ولكن يظل من الواجب الإقرار بشجاعة الوقوف وإلقاء هذه الانتقادات فى وجه القوة الأمريكية. وربما لا نكون مؤيدين للفلسطينيين ولكن ينبغى للمرء أن يكون قادرا على رؤية أن إدوارد سعيد وقف ضد ياسر عرفات بنفس القدر من البلاغة التى انتقد بها الولاياتالمتحدة).
وهذا وقت محير بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون فى حق الفنانين والمثقفين والمواطنين العاديين الذين يتعرضون أحيانا للإهانة بسبب تخطيهم الحدود وتحمل المخاطر وما إلى ذلك من أجل تغيير الطريقة التى نرى بها العالم. وليس هناك ما ينبغى القيام به سوى السعى لإعادة تقدير أهمية هذا النوع من الشجاعة ومحاولة التأكد من أن هؤلاء الأفراد المظلومين آى ويوى وأعضاء جماعة بوسى رايوت وحمزة الكشغرى ينظر إليهم على حقيقتهم: رجال ونساء يقفون فى الصف الأول دفاعا عن الحرية. وكيف يمكن القيام بذلك؟ التوقيع على عرائض ضد المعاملة التى يلقونها والانضمام إلى الاحتجاجات وإعلان المواقف. وسوف يكون لأى جهد تأثير، مهما كان صغيرا.
مؤلف، أحدث أعماله: «مذكرات جوزيف أنتون»، ورئيس مهرجان أصوات عالمية الذى تنظمه مؤسسة «قلم» الأمريكية.