تعطى الطريقة التى تتعامل بها الأمم والشعوب مع الأعمال الفكرية الكبرى التى ينتجها أبناؤها مؤشرا حاسما على حيوية هذه المجتمعات، وعلى كفاءة نخبها الحاكمة فى الاستفادة من «رأس مالها البشرى»، العنصر الأهم من عناصر ثروة وقوة الأمم. وبالإمكان القول إن مصر شهدت على الأقل عملين فكريين من هذا المستوى خلال العقود الثلاثة الماضية. الأول هو «شخصية مصر» لجمال حمدان (الذى صدر فى صورته الأولى عام 1967، واكتمل فى صيغته النهائية فى نهاية السبعينيات) والثانى هو «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» لعبدالوهاب المسيرى (الصادر عام 1998). فكيف كان تعاملنا مع هذين العملين؟ فى الحالتين، تمثلت المفارقة فى اقتران عرائض المدح والتقريظ للعمل «الفذ، العظيم، الموسوعى.. إلخ»، ولصاحبه «العبقرى، العظيم، الخالد... إلخ»، مع تجاهل شبه تام لمضمون هذه الأعمال. كان التركيز دائما على إثبات «تفرد» هذه الأعمال وليس على كيفية الاستفادة منها سواء علميا أو نضاليا. وكان التجاهل التام من دوائر القرار فى مصر والوطن العربى هو سيد الموقف. الأغرب أن أيا من هذين العملين الكبيرين لم يقم نفسه للقراء كعمل «أكاديمى» صرف، وإنما كان واضحا فيهما امتزاج الجهد العلمى بالهم النضالى. وكان المسيرى بشكل خاص أكثر صراحة فى التعبير عن رفضه لأن تكون موسوعته «معرفة مجردة»، وأكثر إلحاحا على التزامه «بتحويل الفهم والتفسير إلى نضال من أجل ما نتصور أنه الحق والعدل: حسب تعبيره الحرفى. هذا الالتزام الصارم «بالعلم المناضل» لم يجنب المسيرى مخاطر «الاحتفال الشكلى والتجاهل العملى» الذى راح ضحيته من قبل جمال حمدان. وفى المرتين، كان التفسير المقدم لهذا التجاهل هو «الطابع النظرى» لهذه الأعمال، والذى يصعب معه الاستفادة منها فى ميادين العمل السياسى المباشر. ينبهنا أصحاب هذا الرأى الشائع إلى أن هناك فرقا كبيرا بين «التفكير النظرى» و«الواقع العملى». الأول عمل ذهنى معقد، يستحق أصحابه الإشادة بما أبدوه من ذكاء وجلد وسعة اطلاع، ولكنه منبت الصلة بالواقع الذى تتطلب إدارته حلولا «واقعية» لا أطروحات «نظرية». لو صح ذلك، فما أضيع الجهد الذى قام به المسيرى (وقبله جمال حمدان) وهو يتصور أنه ينفق عمره ليس فى القيام «بتمارين عقلية» لا طائل من ورائها سوى إثبات «ذكائه وسعة اطلاعه»!! وإنما فى إنتاج معرفة نتسلح بها لنناضل لتغيير الواقع باتجاه الحق والعدل. إن كانت هناك قيمة حقيقية لأعمال المسيرى وأفكاره «النظرية»، فهى فيما تعلمنا عن «الواقع» وطرق الاشتباك معه لتغييره نحو الأفضل. وبمثل ما كان «شخصية مصر» حفرا عند الجذور لمعرفة الواقع المصرى من الأرض إلى البشر والتاريخ، وطرحا لعدد لا حصر له من المقترحات «العملية» حول قضايا تمتد من التركيب المحصولى للزراعة المصرية، إلى التخطيط العمرانى لمدن الوادى، وقضايا السياسة الخارجية والأمن القومى، فإن عمل المسيرى «النظرى» كان محكوما من ألفه إلى يائه بالهموم العملية والنضالية، التى كانت وراء اختياره للصهيونية كدراسة الحالة الرئيسية التى طرح من خلالها أغلب أفكاره «النظرية». كيف يفهم المسيرى الصهيونية؟ يقول المسيرى إن الصهيونية مثلت بالأساس استجابة معينة لواقع اقتصادى واجتماعى معين عرفته الجماعات اليهودية فى المجتمعات الأوروبية مع نشوء الرأسمالية، وسمى «المسألة اليهودية». وقد قام جوهر الفكر الصهيونى على أن «عودة شعب الله المختار» إلى «الأرض الموعودة» هو شرط تحديث الجماعات اليهودية التى تعيش على هامش المجتمعات الأوروبية، بعد أن انتهت وظائفها التقليدية التى قامت بها فى النظام الإقطاعى، بمجرد أفول هذا النظام ونشوء الرأسمالية. ومع نجاح الحركة الصهيونية فى تأسيس دولة إسرائيل، تصبح الصورة أكثر تركيبا، إذ إن النظام السياسى الإسرائيلى، وسلوكه الداخلى والخارجى يقع دائما بين منطقين متمايزين: الأول هو منطق الدولة، والثانى هو منطق الصهيونية الاستيطانية، من هنا فإن فهم النظام السياسى الإسرائيلى يجب أن يقوم على استكشاف أنماط التفاعل بين منطق «المشروع الصهيونى الاستيطانى» و«منطق الدولة الطبيعية». ويلفتنا المسيرى هنا إلى عجز التفسيرات «الأكاديمية» التقليدية للنظام السياسى الإسرائيلى، والتى تتجاهل المنطقين المتمايزين اللذين يحكمان النظام السياسى الإسرائيلى، وتقتصر على وصف الواقع الإسرائيلى باستخدام نفس المناهج التقليدية المستخدمة فى وصف النظم السياسية الأخرى، كأن يدرس النظام السياسى الإسرائيلى مثلا باعتباره نظاما برلمانيا كالنظام الهندى، ثنائى الحزبية كالنظام البريطانى...الخ. ويسأل المسيرى: هل تفسر لنا هذه المناهج الوظائف التى تنفرد بها الأحزاب والنقابات العمالية مثلا فى إسرائيل، دون باقى النظم السياسية؟ هل تفسر لنا مثلا سبب نشوء «الهستدروت» (اتحاد العمال العام) فى إسرائيل قبل نشوء الدولة نفسها بأكثر من 28 عاما؟ هل هناك دولة فى العالم تنشأ فيها نقابات عمالية قبل إنشاء الدولة؟ هل هناك دولة أخرى يكون الاتحاد العمالى فيها هو أكبر رب عمل فى نفس الوقت؟ أى أنه ممثل لأرباب العمل وللعمال فى وقت واحد؟ هنا، يتضح أن قضية «الطابع الصهيونى للنقابات ووظائفها» فى إسرائيل ليست مجرد فكرة «نظرية» وإنما ضرورة لفهم «الواقع» الإسرائيلى. بالمثل، نحتاج إلى فكرة نظرية أخرى طرحها المسيرى هى فكرة «الجماعة الوظيفية والدولة الوظيفية» لفهم الأفكار التى تضمنها خطاب نتنياهو الأخير حاليا حول «السلام الاقتصادى». فالتصور الإسرائيلى لهذا السلام الاقتصادى يقوم على أن تكون إسرائيل «سمسار المنطقة» الذى «يسوق المنطقة للخارج» (من خلال برامج السياحة المشتركة مثلا)، ويسوق الخارج وهو الأهم للمنطقة من خلال علاقات إسرائيل بالولاياتالمتحدة ودول أوروبا، والإيحاء بأن الطريق للاستثمارات والأسواق الغربية يمر من البوابة الإسرائيلية (وهو وهم يصدقه قطاع ضخم من النخب العربية، كما تشهد على ذلك اتفاقات الكويز وما شابهها). نحتاج إذن إلى أفكار المسيرى «النظرية» حول الجماعة الوظيفية والدولة الوظيفية، لفهم ومواجهة واقع «السلام الاقتصادى بديلا عن الانسحاب من الأراضى العربية» كما يطرحه اليمين الإسرائيلى بصياغات مختلفة خلال العقدين الماضيين، وآخرها صياغة نتنياهو التى قدمها فى مواجهة مبادرة «ما دون الحد الأدنى» التى قدمتها إدارة أوباما. فكرة أخرى يطرحها المسيرى، وتمثل لبا أساسيا لمنظومته النظرية، وتبدو للوهلة الأولى «نظرية» وشديدة التجريد. الفكرة اسمها «تاريخية الجماعات اليهودية»، ومفادها أن المشكلة الأهم فى الصهيونية هى أنها تستثنى نفسها من مسار التاريخ الإنسانى، بإصرارها على أن الجماعات اليهودية تمثل «شعبا واحدا يعيش فى المنفى»، منغلق على نفسه، لم يتأثر بالمجتمعات التى عاش بين ظهرانيها لقرون طويلة، وإنما بقى يجتر مفرداته التاريخية الخاصة بانتظار العودة إلى «أرض الميعاد». بالمقابل، تقوم كل منظومة المسيرى النظرية لفهم الصهيونية على توضيح أنه لم يوجد أبدا شىء اسمه «الشعب اليهودى» وإنما «جماعات يهودية» عاشت فى شعوب وحضارات مختلفة وتأثرت بها، وأصبحت جزءا لا يتجزأ منها، شأنها فى ذلك شأن سائر الجماعات التى تتكون منها هذه الشعوب، ولا يمكن فهمها إلا ضمن السياقات التاريخية والاجتماعية والحضارية التى عاشت فيها. ما القيمة «العملية» لهذه الفكرة «النظرية»؟ أكبر بكثير مما يبدو للوهلة الأولى. لنأخذ مثلا فكرة «اللوبى الصهيونى الأسطورى» المسيطر على الولاياتالمتحدة والغرب استنادا إلى سطوة «الرأسمالية اليهودية العالمية»، والتى تطرح دائما باعتبارها المبرر الرئيسى للاستسلام العربى، باعتبار أن العرب يواجهون ما لا قبل لهم به. هذه الفكرة لا مكان لها فى النموذج «النظرى» الذى يقدمه المسيرى، والقائم على تاريخية الجماعات اليهودية. فبمجرد الانتباه لفكرة «التاريخية» نكتشف أنه لا يوجد شىء اسمه «رأسمالية يهودية» وإنما هناك «رأسماليون يهود» يحركهم المنطق الرأسمالى واعتبارات تعظيم الربح ولا يختلف سلوكهم عن الرأسماليين المسيحيين أو المسلمين أو البوذيين. ويصبح الدعم الأمريكى لإسرائيل ناتجا عن ارتباط مصالح الدولتين، وليس بسبب «لوبى صهيونى» يسيطر على العقل الأمريكى المسكين!! دلالات ذلك كثيرة، منها مثلا ما يفرضه هذا الفهم المركب لطبيعة الصهيونية وتاريخية الجماعات اليهودية، من ضرورة إعادة النظر فى العديد من الخيارات الإستراتيجية التى تبنتها العديد من دوائر القرار العربية، من قبيل أن تعميق التحالف مع الولاياتالمتحدة كفيل «بإقناعها» بالتخلى عن دعم إسرائيل وإظهار «مخاطر» اللوبى الصهيونى على المصالح الأمريكية، أو الدعوة السخيفة المتكررة لإنشاء «لوبى عربى» ليواجه «اللوبى الصهيونى» وكأن المليارات النفطية المكدسة فى البنوك الأمريكية منذ أكثر من أربعة عقود لم تكن كافية للقيام بهذه المهمة إن كانت ممكنة أصلا. من ناحية أخرى، فإن أهمية ما يقدمه المسيرى من أفكار «نظرية» حول عجز الصهيونية عن «نفى تاريخية الجماعات اليهودية» وخلق «تاريخ يهودى نقى» يبرر إنشاء «دولة نقية لليهود»، تبرز بشكل خاص عندما نحاول فهم هوس النخب الإسرائيلية بالحصول على اعتراف عربى صريح «بيهودية إسرائيل» كشرط لأى إعادة لأى قسم مهما ضؤل من الحقوق العربية، كما بشرنا بذلك ثنائى نتنياهو وليبرمان. الأمثلة عديدة على المقدرة التفسيرية والدلالات العملية للأفكار «النظرية» لعبدالوهاب المسيرى، ليس فقط فى تفسير الواقع الإسرائيلى، وإنما أيضا فى التنبؤ بمآل هذا الواقع فى أكثر من مناسبة (مثال: تنبؤه فى سلسلة مقالات فى صيف 1984، بتمرد شعبى فلسطينى واسع يعتمد أداة «رجم المستوطنين بالحجارة» كتكتيك نضالى رئيسى، وهو ما عرفناه بعد ذلك بثلاث سنوات باسم «الانتفاضة الفلسطينية» التى تفجرت فى ديسمبر 1987). لم تكن النجاحات التفسيرية المتكررة لأطروحات المسيرى مجرد ضربات حظ موفقة، وإنما نتاج منطقى لنموذج «نظرى» مركب، لا يمثل تمرينا عقليا صرفا، وإنما يقدم أدواتا ضرورية لفهم «الواقع» ولتقييم خياراتنا الإستراتيجية فى التعامل معه. بهذا المعنى، يصبح هذا النموذج «النظرى» ضرورة «واقعية»، مادمنا نفهم الواقعية باعتبارها تفسير الواقع والاشتباك معه لتحسين شروطه، وليس باعتبارها استسلاما تاما لهذا الواقع، أو بالأحرى لصورة مشوهة منه. هذه مجرد غيض من فيض الإمكانات «الواقعية» لأفكار المسيرى «النظرية»، والتى لازالت تنتظر من يستكمل مهمته العلمية والوطنية، باستخراج الإمكانات النظرية والنضالية الكامنة فى أفكاره، والتطوير المستمر لهذه الأفكار. هذا، وليس مدائح التقريظ الجوفاء، هو ما يستحقه منا مفكر مناضل بحجم عبدالوهاب المسيرى.