خلال إحدى الجلسات النقاشية التي شاركت فيها من خلال عملي مع سيدات مقيمات بأحد الأحياء التي تسمى بالعشوائية في القاهرة، تطرق الحديث إلى موضوع عمل المرأة. "أنا لا أعمل - قالت إحدى المشاركات - لا أحمل شهادة ولا أجيد الكتابة ولا عندي وظيفة" ووافقتها الأغلبية.. فجميع المشاركات تقريبا، واالواتي فاق عددهن الستين مشاركة خلال تسع جلسات، تتفقن في أنهن لا تعملن. صحيح أن كل واحدة منهن لا تكف عن السعي وراء الرزق لنفسها ولأسرتها، ولا تعتمد على دخل الزوج، ولكنه ليس ما يسمونه "عملا" بالمفهوم الكامل. جميعا تعملن في الواقع ولكن دون التمتع بمزايا العمل سوى الدخل الزهيد منه لكي تظل قادرات على النهوض بالأعباء المنزلية والتربوية والأسرية التي لازلن ملتزمات بها. "أنا لا أعمل لكن لو معايا قرشين اشترى طرح وجلاليب من 6 أكتوبر أو العتبة وأبيع هنا في المنطقة، ولما تيجي لي الفرصة أكيس لعب الأطفال (الوضع داخل أكياس المقرمشات) وأخذ ثمانية جنيه على كل ألفين كيس، وأطبخ وأبيع أكل وامسح شقق الموظفين." كلهن تعملن إذن ولكن فيما يطلق عليه القطاع غير الرسمي أو القطاع الاقتصادي العشوائي مثل الأحياء التي يعيشون فيها. وهذا القطاع له مزايا وعيوب. المزايا تتلخص في المرونة والسهولة حيث لا تتطلب هذه الأعمال أي كفاءة أو تدريب أو رأسمال، ويناسب المرأة التي تحتاج بعض الدخل ولكنها لا تريد الانغماس في العمل وترك وتحجيم هويتها كزوجة وأم. ولكن العيوب أيضا كثيرة، فالأعمال في هذا القطاع لا تعود على العاملين فيها سوى بالدخل الزهيد الذي أحيانا ما يستدعى اهانة النفس أو الجسد والعمل من خلال وسطاء لا يعرفون الرحمة، وهى أعمال تتم في أسواق صعبة لا تتوافر فيها المعلومات التي تسمح بالحماية من التقلبات، ولا توجد عليها رقابة تحمى مصالح المشتغلين. ولكن النساء تفضلن هذه الأعمال غير الرسمية لأنها - كما قالت إحدى المشاركات - "تراعى ظروف الست اللي محتاجة قرشين تكمل بهم مصروف البيت". هذا النوع من الأعمال لم يعد حكرا على الرجال وأولاد البلد بل بناتها ونسائها أيضا اللواتي خرجن إلى معترك الرزق شئنا أم أبينا . المرأة التي تحلب فى زريبتها وتبيع الحليب في الأسواق الريفية، والبنت التي تعمل بالقطعة في مشغل أو مصنع، والأم التي تزرع و تحصد في أرض الآخرين، والكادحة التي تنظف منازلهم وتعد لهم الطعام، والشابة التي تبيع بضاعة في محل ولا يكاد يكفى دخلها ثمن المواصلات والملبس، كلهن تعملن وعملهن يمثل جزء من الناتج القومي ولهن حقوق يهدرها المجتمع. لقد تبين من خلال تحليل مسح سوق العمالة المصرية لسنة 2006 أن هناك ما يقرب من أربع ملايين فرصة عمل أضيفت خلال الفترة من 1998 إلى 2006 إلى سوق العمل المصري وأن أغلب المشتغلين بها من النساء، ولكن هذه الفرص أغلبيتها كانت في نوعية الأعمال سابقة الذكر، أعمال تدر دخلا زهيدا ولا تعود على أصحابها بالأمان ولا الاستقرار ولا الحقوق ولا الحماية الاجتماعية، أعمال لا يحميها القانون ولا آليات الرقابة المتاحة، الأمر الذي قد يفسر التناقض بين اتساع سوق العمل وزيادة معدل الفقر، فالأعمال المضافة إلى السوق لا ترفع أصحابها فوق خط الفقر. قد يرى البعض أن توافر هذه الأعمال خير من عدم توافرها، وأن الأفضل ترك آليات السوق لضبط إيقاعها، ولكن هل من بديل إيجابي يحمي حقوق العاملات دون أن يضحي بمرونة وديناميكية الأسواق التي تعملن بها؟ نعم توجد بدائل. أولها ضرورة قيام مؤسسات المجتمع المدني بالعمل على تنظيم اتحادات للعاملين والعاملات في هذه الأسواق العشوائية، مثل اتحاد العاملين بالمنازل في البرازيل واتحاد النساء المشتغلات لحسابهن في الهند (Self Employed Women Association) لأنها تساعد على منح الحماية والاحترام لأعضائها والمطالبة بحقوقهن كما أنها تساعدهن على الحصول على مزايا أخرى مثل التمويل والتأمين والخدمات القانونية والاجتماعية. أما التدخل الثاني، هو دور الدولة في إتاحة بنية مواتية لعمل النساء، كل النساء سواء المتعلمات والمرفهات أو الكادحات في صمت، لكي تستفيد جميعا من فرص التشغيل والتدريب والحماية الاجتماعية. وقد شرعت الدولة على العمل في هذا الاتجاه عن طريق مراجعة الفئات المستحقة للضمان الاجتماعي من أجل مد غطاء الضمان إلى الفقراء من العاملين والعاملات. ولكن بمقدور الدولة أن تتدخل كطرف مناصر للعدالة باقتراح حد أدنى للأجور للأعمال العشوائية، وبتنظيم بعض الأسواق مثل أسواق العاملات بالمنازل والعاملات في قطاع الزراعة، وبتزكية قيمة العمل كمسار للعزة والكرامة للمرأة مثلها مثل الرجل. فإذا كانت النساء قد اجتحن سوق العمل فعلينا أن نفخر بذلك ونقدر فيهن الشجاعة والتحمل والاستعداد للمشاركة في أعباء الدخل والإنفاق. • باحثة اجتماعية