آفة حارتنا النسيان، ولذلك أتذكر دائما طارق الأقطش.
من بين كل شهداء ثورة يناير الذين لم تتوقف دماؤهم عن الجريان منذ عامين، أتوقف دائما عند طارق الأقطش، هناك رابط روحي خاص يربط بيني وبينه، لم أعرفه أبدا ومع ذلك أشعر نحوه بألفة شديدة كأنه كان صديق عمري أو أحب جيراني إلى قلبي، ربما لأنني شاركت أسرته أمل العثور عليه عندما ظل مفقودا لفترة بعد يوم 28 يناير، لست أنسى عندما اتصل بي أحد أصدقاء أسرته لأساعدهم إعلاميا في البحث عنه لأن أسرته تريد معرفة مصيره بعد أن عذبها طول اختفائه، كنت يومها مرهقا من كثرة ما سمعت من قصص مأساوية عن المفقودين والمختطفين، فحكيت له قصة جثة مفقودة تم العثور عليها للتو في مشرحة زينهم، وغضبت من نفسي بشدة بعد أن انتهت المكالمة، وعندما عرفت أنه تم العثور على جثته بالفعل في مشرحة زينهم، انهرت وزاد من انهياري ثبات وتماسك صوت زوجته عندما حدثتها لأعزيها بعد أن تلقت الأسرة الصدمة التي قضت على آمالها في عودة طارق إلى زوجته وابنتيه وأحبابه.
منذ ذلك اليوم الحزين تحول طارق الأقطش إلى أيقونة ثورية بالنسبة لي، كتبت ذات مرة أن كلا منا يحتاج إلى أن يستلهم تجربة مواطني أمريكا اللاتينية الذين يختار كل منهم قديسا ليكون ملاكه الحارس، وعلى كل منا أن يختار شهيدا ليكون ملاكه الحارس، وأنا اخترت طارق الأقطش فكنت ومازلت أحاول دائما أن أدخل في حوارات مستمرة معه حول ما نشهده من أحداث، متخيلا كيف سيكون موقفه منها، ومفكرا على الدوام كيف سيكون في نهاية المطاف رأي ابنتيه عندما تكبران وتنظران إلى صورة أبيهما المعلقة على حائط البيت، وهل ستقولان له ذات يوم قريب بإذن الله أن مصر أصبحت الآن كما كان يحلم ويتمنى؟
في 21 مايو 2011 نشرت في صحيفة (المصري اليوم) رسالة جاءتني من السيدة رانيا شاهين زوجة الشهيد طارق، ولا أنسى أنني عندما طلبت منها أن ترسل لي صورة تجمعها هي وابنتيها مع الشهيد، أرسلت لي هذه الصورة التي تراها الآن مع هذا المقال، قائلة لي إنها الصورة الوحيدة التي تجمع الأسرة كاملة، لأن ابنته سارة لم تكن قد أكملت سنة، وقد التقطتها الأسرة عند ذهابها لاستخراج فيزة للسفر إلى أمريكا، وهو السفر الذي ضحى به طارق عندما قرر أن ينزل إلى التحرير في جمعة الغضب، قائلا لها انه يتوقع أن يتم حبسه وضربه هو وأصدقاؤه «لحد ما نتعجن»، لكنه لم يتخيل أبدا أنه سيموت برصاص حي انطلق من قناص. في رسالتها تلك قالت لي «أنا لن أترك حق زوجي في ثورة آمن بها وتحرك لها ومات في سبيلها وهو المسالم الكاره للسياسة بكل أشكالها، ولكنه رأى في تلك الثورة مستقبل بلاده وغد بناته.. لا لن أغفر أو أسامح... ولتخافوا من دعوة زوجة مظلومة في عيد زواجها وهي ترتدي الأسود وتبكي من وجع قلبها والخوف من غد غير معلوم و ثورة تُسرق وهي لا تملك أن تتركها لأنها دفعت ثمنها مقدما غاليا جدا».
عندما طلبت من السيدة رانيا شاهين أن تكتب سطورا أنشرها بعد مرور عامين على استشهاد طارق، لعلها تساهم في إيقاظ الغافلين الذين يتصورون أننا يمكن أن نرى استقرارا أو أمانا أو تقدما ونحن ننسى دماء شهدائنا بل ونضيف إلى دمائهم كل يوم المزيد من الدماء، جاءتني منها ليلة الثامن والعشرين من يناير هذه الرسالة التي أضعها أمام ضمائركم وعقولكم وقلوبكم، تاركا زوجة الشهيد تتحدث إليكم:
«حاولت جاهدة أن أكتب لك لأعبر عن ما أشعر به عن ما أراه أو حتى عن أمل أتمسك به، ولم أجد لديّ من الكلمات ما ينصفني، فاعذرني وسامحني فأفكاري مشوشة ومشاعر حائرة غائمة. الوجع أكبر مما تتخيل والحزن رفيق يومي أحس بغربة قاسية إن غاب أو التهيت عنه. اليوم ذكرى ميلاد رفيقي وغدا عيد استشهاده، أرسم أكبر ابتسامة قد تتخيلها وأضحك في وجوه الجميع وأخاف أن تفضحني عيون تشرد فجأة أو دموع تسقط بلا مقدمات، أفضل أن أتذكره وحدي وفي صمت ذلك أفضل لكل من حولي. أتذكر في صمت وأقارن أمسا ليس ببعيد قد يبدو مثل اليوم ولكنه مختلف. أتذكر ألم الفراق وأتخيل أوجاع الآخرين التي يوضع أولادها كل يوم في خانة الشهداء.
مر عامان ولم يتغير شيء، نفس المشاهد، نفس الأصوات المفزعة، نفس القلق والرعب من صباح قد لا يأتي بخير. شهداء لا حصر لهم لأسباب تنوعت في قسوتها حتى أبدعت. كل بيوت بلدي اتشحت بالسواد في خلال العامين، حتى صرنا نألف الحزن ولا نخاف الموت. موتٌ لم يميز بين صغير أو كبير، فقير أو غني، ثائرا كان أو حتى جنديا ليس من حقه أن يعترض. وآخرون يعيثون في الأرض فسادا وتجاهلا لأوجاع ومطالب المطحونين يتنوعون كل عام، ولكن يبقى الجشع والطمع هو محركهم، والتحكم هو غاية أملهم لا يدركون أن أيديهم ملوثة بدماء لا تجف إلا بالقصاص. فسحقا لمنصب أو سلطة تأتي على جثث الأبرياء فالظلم حتما لا يدوم والدم ثأر لا يُنسى.
أعلم أنني قد أبدو لك تعيسة أو فقدت الأمل ولكن والله أبدا، قد تغلبني الهموم والاوجاع مرات ولكن مازال تمسكي بغد أولادي المشرق يدفعني، وإيماني ان الله رحيم عادل سيأتي بحقي وحق كل من ظلم ومات هو دليلي، الله هو رب كل البشر وإن اختلفوا يجبر خاطر المظلوم ويخسف الأرض تحت أقدام كل من ادعى وطغى. وختاما أدعو لنا جميعا بالصبر على أحزاننا وبالثبات لكل من حاول وجاهد».
انتهت الرسالة، ويبقى أن أقول إننا دائما نستسهل عندما نقول إن دماء الشهداء في رقبة صانع القرار، مع أن الحقيقة هي أن تلك الدماء في رقابنا جميعا، ولن يسامحنا الله إذا فرطنا فيها، وعلى كل منا أن يتحمل مسئوليته تجاه تلك الدماء كاملة وهو يفكر في اختياراته السياسية، وأن يتذكر أننا بدون القصاص لن نستعيد الحياة التي نتمناها أبدا، فقد اقتضت سُنّة الله أن يجعل لنا في القصاص وحده حياة، ولن تجد لسُنّة الله تبديلا.