غابت مظاهر الفوضى، وغاب المتشددون وراياتهم السوداء، وانتشرت عوض ذلك مجموعات الفنانين الشباب الذين صنعوا من شوارع المدينة وأزقتها وميادينها، فضاءات عروض فنية مفتوحة، أطلق عليها اسم "دريم سيتي" أو "المدينة الحلم".
دخلنا ساحة مقر الحكومة، الأسلاك الشائكة ما تزال تحيط بمكاتب رئيس الحكومة، وتقدمنا قليلا في شارع القصبة... المكان مختلف تمامًا، هناك حركية وروح جديدة ووجوه مبتسمة.
على صيحات مجنونة دخلنا شارع القصبة للكشف عما يحدث، كانت هناك مجموعة من الشباب بصدد تقديم عرض "مسرحي"... كانت أيادي الشباب مقيدة، وهم يطلقون صيحات جنونية مفزعة، ويقومون بأدوار ارتجالية في الشارع، بشكل يدعو إلى التساؤل....إنه عرض "للتظاهر بالجنون" أو "التصرف بحرية مطلقة"... كان البعض من الجمهور يضحك، والبعض الآخر يتابع ما يحدث أمامه مندهشًا.
واصلنا الخُطى داخل المدينة العتيقة، وتتبعنا مسار بعض الشباب من طلبة المدارس، وفي إحدى ثنايا المدينة وفي منعطف بنهج الدريبة تقابلك الراقصة إيمان السماوي بحركات ساحرة على أنغام موسيقى مبتكرة في عزف للفنان الفرنسي سيق فريد، ومرافقة الفنان منير الطرودي، الذي يهمس بصوته نغمات دافئة.
تابعنا جولتنا في المدينة القديمة، وفي سوق العطارين وغير بعيد عن جامع الزيتونة، وبإحدى قاعات المكتبة الوطنية، قابلنا ملاك السباعي، راقصة ومصممة رقصات... والتي قالت: "لقد حاولت أن أقدم رقصات معاصرة على وقع أنغام من الماضي".
وفي ساحة البركة الشهيرة ببيع الذهب والفضة، أقام شباب فرقة "التياترو" مسرحًا مفتوحًا تحيط به دكاكين الذهب والمجوهرات... هناك كان يباع العبيد في العهود الغابرة... وعاد الفنانون بجمهورهم إلى سنة 1846 تاريخ إلغاء الرق بأمر من باي تونس... فجسدوا هناك كيفية تجارة بيع العبيد في نبش للتاريخ بكل آلامه وآماله.
وغير بعيد عن سوق البركة، وفي دار الحداد، أقامت مريم بودربالة معرضًا تشكيليًا، فقد علّقت الفنانة ثماني صور فوتوغرافية كبيرة مقلوبة، تم تصويرها من فوق أسطح المدينة العتيقة؛ للتعبير عن "سراب الثورة الزائل"، غير أنها تركت حيزًا كبيرًا من الأمل في فضاء الصور.
قارب الوقت غروب الشمس، وخرجنا من أزقة المدينة العتيقة لندخل مأوى القصبة الكبير بطوابقه الأرضية الثلاثة، لنكتشف عالمًا شبه مظلم، عالم السجون كما قدمته هالة عمار من خلال تركيبات تشكيلية صوتية وبصرية؛ فعبر الصور أخذت الفنانة الجمهور الزائر للمأوى إلى أجواء السجن وظلماته وعذابه.... صعدنا سلم المأوى لنجد أمامنا ساحة القصبة الشهيرة... لم يكن هناك اليوم اعتصام، وإنما عرض يجمع بين فريقين من "التونسيين الخارقين" في مواجهة على "ملعب المواطنة" في أداء مسرحي مبتكر، حول موضوع "التونسي الخارق" من تقديم الفنانة مفيدة فضيلة.