"العلاج الطبيعي" تقرر تحريك دعوى قضائية لإلزام وزارة العمل بوقف اللجنة النقابية للإصابات والتأهيل    وزير التعليم العالي: الجامعات الأهلية تحظى بدعم كبير من القيادة السياسية    الادارية العليا تستقبل 31 طعناً على نتيجة ال 30 دائرة الملغاة    الرئيس السيسي: مصر تعتزم المشاركة في بعثة الاتحاد الأفريقي الجديدة بالصومال    رئيس الوزراء: تعليمات مشددة من الرئيس السيسي باتباع منظومة تشغيل متطورة للملاحة الجوية    87 ألف طن قمح رصيد صوامع الغلال بميناء دمياط اليوم    وزير الإسكان يختتم جولته اليوم بتفقد مشروع طريق محور سفنكس    محافظ أسوان يبحث توصيل الخدمات والمرافق ل40 مصنعا.. اعرف التفاصيل    «مصر للسياحة» تخطط لتطوير الفنادق التابعة والتوسع في تطبيقات التحول الرقمي    500 ألف نسمة في 4 أشهر.. الإحصاء: عدد سكان مصر بالداخل يصل 108.5 مليون    السيسي: أفريقيا تمتلك موارد طبيعية وبشرية تؤهلها لاحتلال المكانة التي تستحقها عالميا    افتتاح أعمال المؤتمر الوزاري الثاني لمنتدى الشراكة «الروسية-الأفريقية».. ووزير الخارجية يلقى كلمة افتتاحية نيابة عن رئيس الجمهورية    ماذا جاء في وثائق إبستين عن ترامب؟    انهيار مبنيين متضررين من قصف للاحتلال الإسرائيلي على غزة    مباشر الدوري الإنجليزي - نيوكاسل (2)-(0) تشيلسي.. جوووول الثااني    وزير الشباب من داخل ملتقى التوظيف بالمنيا: نطالب الشباب بالتفاعل لبناء الذات ولا وقت للكسل    مواجهة نارية على لقب البريميرليج.. مانشستر سيتي يصطدم بوست هام اليوم    أمم إفريقيا - نجم جنوب إفريقيا السابق ل في الجول: سنقدم أداء جيد في البطولة.. ومصر ستتصدر المجموعة    أمم إفريقيا - مؤتمر الركراكي: حكيمي ضحى من أجل المغرب.. ولا أشعر بالضغط    الداخلية تكشف ملابسات تجمع أنصار مرشح خاسر بانتخابات مجلس النواب بديرب نجم    تأجيل محاكمة متهم بقتل صاحب منزل لسرقة أمواله بشبرا الخيمة للأربعاء المقبل    تعليم جنوب سيناء تعلن جدول امتحانات الفصل الدراسي الأول لمرحلة الثانوية العامة صباحي ومسائي    وزير الثقافة ينعى الفنانة سمية الألفي    المركز القومي للمسرح والموسيقي والفنون الشعبية يطلق الدورة الأولى من مسابقة زكريا الحجاوي لدراسات الفنون الشعبية    خبير: إسرائيل حولت الهدنة إلى حرب صامتة ومخطط قوة الاستقرار تخدم أهدافها    وصول 14 من أطباء الجامعات المصرية إلى مستشفى العريش العام لفحص المرضى بالمجان    النيابة الإدارية تواصل تلقى طلبات التعيين بوظيفة معاون نيابة إلكترونيا.. المواعيد    الكويت تحتفل بالذكري الثانية لتولي الشيخ مشعل الأحمد مقاليد الحكم .    إصابة 7 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بطريق الفيوم القاهرة الصحراوي    بعد إعلان ارتباطه رسميا.. هذا هو موعد زفاف أحمد العوضي    محمد عنتر: الزمالك "اختياري المفضل" دائما على حساب الأهلي.. والأندية الشعبية في خطر    رئيس هيئة التأمين الصحي في زيارة تفقدية لمبنى الطوارئ الجديد بمستشفى 6 أكتوبر    ضبط طن ونصف استربس دواجن وبسطرمة مجهولة المصدر بشبرا الخيمة    سحب 666 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    وزارة العمل: 664 محضرا خلال 10 أيام لمنشآت لم تلتزم بتطبيق الحد الأدنى للأجور    محكمة باكستانية تقضي بسجن عمران خان وزوجته 17 عاما في قضية فساد    المخرج الفلسطيني يوسف صالحي: ترجمت الألم الداخلي إلى لغة سينمائية في فيلم «أعلم أنك تسمعني»    دار الإفتاء تعلن نتيجة رؤية هلال شهر رجب لعام 1447 هجريا بعد المغرب    روسيا تعلن تحرير بلدتين جديدتين شرق أوكرانيا    موعد مباراة المغرب وجزر القمر في افتتاح أمم أفريقيا 2025    مستشار الرئيس للصحة: الوضع الوبائي مستقر تمامًا ولا يوجد خطر داهم على أطفالنا    دار الإفتاء توضح علامات الاستخارة وتحذر من ربطها بالأحلام فقط    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : لعنة الله على تلك .. المسماة " ديمقراطية !?    فوز الدكتور أحمد طه بجائزة الطبيب العربى 2025.. وعميد قصر العينى يهنئه    إقبال جماهيري على «حفلة الكاتشب» في ليلة افتتاحه على مسرح الغد بالعجوزة    نجم الزمالك السابق: أحمد عبدالرؤوف مُطالب بالتعامل بواقعية في المباريات    إزالة 10حالات تعد وبناء مخالف في الغربية    مكتبة مصر العامة بالأقصر تستقبل وفد المركز الثقافي الكوري لبحث التعاون    المبادرات الرئاسية تعيد كتابة التاريخ الصحي لمصر    أزهري يعلق علي مشاجرة الرجل الصعيدي مع سيدة المترو: أين هو احترام الكبير؟    نشرة أخبار طقس اليوم السبت 20 ديسمبر| الأرصاد تحذر من أجواء شديدة البرودة    ذكرى ميلاده ال95.. صلاح جاهين يصرخ عام 1965: الأغنية العربية في خطر!    مواقيت الصلاه اليوم السبت 20ديسمبر 2025 فى المنيا    الأنبا فيلوباتير يتفقد الاستعدادات النهائية لملتقى التوظيف بمقر جمعية الشبان    محمد معيط: روشتة صندوق النقد الدولي عادة لها آلام وآثار تمس بعض فئات المجتمع    القبض على إبراهيم سعيد لاعب كرة القدم السابق وطليقته داليا بدر بالقاهرة الجديدة    نائب وزير الخارجية يلتقي الممثل الخاص لسكرتير الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث    طائرات ومروحيات أمريكية تشن هجوما كبيرا على عشرات المواقع لداعش وسط سوريا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يسري فودة يكتب: قبلة على جبين أمي
نشر في الشروق الجديد يوم 06 - 09 - 2012

هناك نوع من الأسئلة لا يستطيع الإنسان صياغته في الزمن المضارع، لا بالضرورة لعجز لغوي، و لكن لنوع آخر من العجز يدخل تحت إرادة الله، عز و جل، التي شملت كل شيء في الدنيا و الآخرة. من بين هذه الأسئلة سؤال من مريض إلى طبيب: "ما هي درجتي الآن على مقياس جي سي إس؟" ترمز هذه الأحرف اختصاراً إلى "جلاسكو كوما اسكيل"، و هو مقياس طورته جامعة جلاسكو البريطانية عام 1974 لتحديد مدى عمق حالة الغيبوبة. يبدأ المقياس من النقطة 15 في حالة الوعي التام و ينتهي لدى النقطة 3 في حالة الغيبوبة التامة.

في ذلك العام، عام 1974، كنت طفلاً غضاً، و كان أبي قد عاد بنا من إحدى قرى محافظة سوهاج، حيث كان يعمل مديراً لوحدة صحية نائية، إلى قريتنا على أول طريق طنطا- شبين الكوم. صارت لهذا الطريق أهمية استراتيجية بعد حرب أكتوبر؛ فهو الطريق الذي بدأ يسلكه الرئيس الراحل، أنور السادات، في حجه السنوي في سيارة مكشوفة إلى قريته "ميت أبو الكوم" في المحافظة المجاورة. وجلت أمي خيفةً عليّ عندما علمت أن المدرسة، و من ورائها القرية كلها، اختارتني كي أحمل طوقاً من الزهور إلى عنق الرئيس. لكنها كانت لحظة ألقت بذلك الطفل الغض إلى ما لم يكن لخياله أن يدركه إلا بعد ذلك بسنوات رغم اشتعال الخيال في أعقاب نصر أكتوبر.

عندما رأيتها في غرفة العناية المركزة آخر مرة مساء الخميس، 30 أغسطس 2012، كانت أمي لدى النقطة 10 على ذلك المقياس، و هي نقطة مقبولة يمكن العودة منها بإذن الله. هرولت عائداً من طنطا إلى القاهرة و معي مظروفان كبيران، داخل أحدهما أشعة مقطعية للمخ، و داخل الآخر أشعة بالرنين المغناطيسي، أيضاً للمخ. قبل ذلك بيومين اثنين لم يكن لدى الأطباء - و من ثم لم يكن لدينا - أي شك في أنها قد تعدت مرحلة الخطر بعد جراحة موضعية حسنت كثيراً من ضغط الدم و من وظائف أعضاء مختلفة في الجسم.

يومها، يوم الثلاثاء، كنت أقطع الطريق من القاهرة إليها فرحاً ملتقطاً وجبة غداء في صورة "كوز درة مشوي" من أحد الفلاحين المكافحين على الطريق السريع أمام "دفره" قبيل الوصول إلى طنطا. صار لي الآن أكثر من أسبوع و أنا أقطع طريقاً مشحوناً بالذكريات بين عيدان الذرة، رمز اللهو و السمر في الطفولة و الصبا، و سيقان شجيرات القطن، رمز العمل و الكفاح في عز الحر. و صار لها هي الأيام نفسها في غرفة العناية المركزة في أحد المستشفيات الخاصة.

أتجنب إزعاج أصدقائي حتى في أمور هامة كهذه، لكنني كنت قد اضطررت قبل أيام إلى إخبار اثنين منهما في القاهرة. أولهما صديقي ألبرت شفيق رئيس قنوات أون تي في التي كانت تستعد على قدم و ساق لعودة برنامجي و بقية البرامج الرئيسية في شكل جديد للقناة، و ثانيهما الدكتور حسام بدرواي. لم أكن أعلم في البداية بمن أستغيث بعد الله عندما شرح لي طبيب والدتي في طنطا، الدكتور سامح فتحي، حالتها. كانت الحالة من التعقيد فأثرت تزامنياً على أكثر من عضو في الجسم بحيث لم أكن أعلم حتى إلى أي نوع من الأطباء المتخصصين في القاهرة ألجأ أولاً.

لا أحد أقرب إلى القلب من الأم، و لا شيئ أبعد عن العقل في لحظة كهذه من السياسة، و لا إحساس أقسى على الإنسان من الإحساس بالعجز. بذل الدكتور حسام بدراوي من وقته و جهده الكثير في متابعة الحالة، لكنه كل مرة كان يعود كي يقول لي إن حساباته مع متخصصين آخرين تقودهم إلى أن مخاطر نقلها و هي على جهاز التنفس الصناعي من طنطا إلى القاهرة لا تزال أعلى من ذلك الفارق الضئيل في تقديرهم بين ما هو متاح لها في طنطا و ما يمكن أن يتاح لها في القاهرة.

وسط ذلك حمل لي هاتفي رسالة صوتية من الدكتور عمرو حلمي، وزير الصحة الثائر الخلوق، و هو لا يعلم من الأمر شيئاً. في طريق عودتي بصور الأشعة مساء الخميس اتصلت به فاتصل هو فوراً بالدكتور وليد رأفت أستاذ المخ و الأعصاب. ثم وجدت الصديق حسام صبري في انتظاري في طريق العودة إلى المنزل و معه أستاذ آخر كبير في المخ و الأعصاب هو الدكتور عمرو منسي الذي كان يشرف على حالة حفيد الرئيس السابق. مرة أخرى: لا يمكن نقلها الآن و لا مجال للتدخل الجراحي.

يمنحني اتصال آخر صباح اليوم التالي، الجمعة، من الدكتور عمرو السمان، الذي ينتمي إلى جيل جديد من أخصائيي مصر المتميزين في المخ و الأعصاب، بريقاً من الأمل و هو يتمعن الآن في صور الأشعة التي حملها إليه صديقي حسام صبري. لديّ بعد صلاة الجمعة موعدان، أولهما مع الدكتور حسام بدراوي في منزله في مدينة 6 أكتوبر و ثانيهما مع الدكتور وليد رأفت في عيادته في ميدان لبنان الذي تكرم و عرض المساعدة في أي وقت بعد أن أطلعه الدكتور عمرو حلمي على الأمر.

ثم فجأة يتصل بي الدكتور سامح فتحي من طنطا. "أرجو الحضور فوراً فقد انخفض ضغط الدم بصورة كبيرة و لا ندري ماذا نفعل". عندما ضغطت عليه في أسئلتي كان جوابه قاطعاً: "سيكون من كرم الله لو بقيت والدتك معنا 24 ساعة أخرى". أختاي و زوجاهما و أخوالي و أعمامي و كثيرون من العائلة الممتدة حولها الآن، فأين ينبغي أن أكون؟ فرداً آخر يضاف إليهم؟ أم أن من الأفضل أن أستمر في جهودي مع الإخصائيين؟ بقيت هكذا لنحو نصف ساعة مشلول القرار. لكن أطرافي بدأت تتحرك مع كل خلية من ذكرى تفرض نفسها الآن و كانت أحداثها قد وقعت في هذا الأسبوع نفسه قبل اثنتي عشرة سنة. كنت وقتها في لندن عندما أتاني خبر أبي من جمال، ابن عمي و زوج أختي سماء. على الأقل أنا الآن في مصر و يمكنني أن أكون إلى جوارها. هكذا قررت.

ما أن بدأت في ارتداء ملابسي حتى لمع هاتفي المحمول معلناً عن اسم العقيد هشام، ابن عمتي و زوج أختي منال و صديق طفولتي و صباي. يجهش الآن صوت جندي يدافع عن سماء مصر بالبكاء: "إنا لله و إنا إليه راجعون". لا شيئ في الدنيا يمكن أن يساعدك على الاستعداد للحظة كهذه. انعقد لساني، انعقد تماماً إلا من كلمة واحدة: "لا إله إلا الله"، و انعقد بصري إلا من وجه أمي صبوحاً دائماً رغم الألم، و انعقد سمعي إلا من صدى دعائها لي كل يوم: "ربنا يحبب فيك حصى الأراضي"، و انعقدت مخيلتي إلا من أطياف متداخلة متسارعة لعمر بدأ نطفة بين جنبيها.

في قرية صغيرة لم يتعد عدد أبنائها آنذاك أكثر من بضعة آلاف قليلة، اسمها منشية جنزور، أتت بي إلى الحياة ساعة الفجر يوم جمعة في "المَقعد"، و هو غرفة كبيرة فوق سطح المنزل الريفي كانت هدية جدتي لابنها الذي كان قد تخرج لتوه من كلية الطب كأول متعلم "ليبيرالي متدين" في الوقت نفسه في قرية عدد من لا يستطيع أن "يفك الخط" فيها أضعاف عدد من يستطيع. بمعايير القرية كان هذا "المقعد" ما يمكن أن يطلق عليه الغربيون "روف تيراس"، و بمعايير أبي كان هدية من الله جمعته بحبيبة قلبه، و بمعاييري أنا كان ملاذاً للاعتكاف منذ نعومة الأظافر في ذلك الركن البعيد المنزوي من السطح حيث أغطس بين حطب الذرة اللين و عيدان القطن اليابسة مع ما اختلسته من قشدة من مخزن "متارد" اللبن و ما وقعت عليه يداي من كتب و مجلات من أي مكان. هكذا أبقى لساعات تحت أشعة شمس رائعة يقطعها فقط مواعيد الصلاة مع جدي و تنتهي بكرة القدم مع عمي، علي، الذي لم يكن يكبرني إلا بنحو عشر سنوات.

قصتي مع قريتي هي قصتي مع أمي. تتهلل أساريرها فرحاً و فخراً كل مرة تخترع مناسبة كي تخبر زوارها أمامي - و أنا "يا أرض انشقي و ابلعيني" - أنه كان يحلو لي، و عمري لم يتجاوز الثانية، أن أحبو متسلقاً قبل أن يستقر بي المقام فوق سطح "الطبلية" أمام الناس ثم أرتدي نظارة أبي متظاهراً بقراءة جريدة أحملها رأساً على عقب. بعد قليل أعدلها حين أرى صورة الأستاذ محمد حسنين هيكل لأن وعيي وقتها ارتبط بوعي أبي الذي كان دؤوباً على قراءة عموده الشهير، "بصراحة"، في الأهرام.

سبحان الله، في هذه اللحظة، بعد تلك السنوات كلها، يدق باب منزلي في القاهرة برسالة مكتوبة من الأستاذ:

"الصديق العزيز الأستاذ يسري فوده ... لقد علمت في نفس يوم وصولي إلى القاهرة، بعد غياب شهرين كاملين عنها، أنك فقدت أقرب و أعز الناس لديك، و تلك لحظة محزنة و موحشة، جربتها من قبلك، و عرفت مرارتها و قساوتها. و إني لأرجو أن تنقل إليك هذه السطور صادق مشاعري في هذه اللحظة و كل مشاركتي القلبية، حتى يتاح لي بنفسي أن أراك، و أن أقدم لك بنفسي عزائي و دعائي. إنني أعرف أن كثيرين يشاركونني تقديري لك، و أننا جميعاً نعرف أن شجاعتك قادرة على مشاعرك. مع موفور التحية و بكل مودة ... محمد حسنين هيكل".

لم يكن يمكن لسيدة ريفية مثل أمي لم يتح لها أن تكمل تعليمها أن تدرك الكثير من تفاعلات السياسة و الفكر و الثقافة و العلم في حياتها، لكن الله حباها بفيض من الفطرة و الفطنة و الأدب. كما أن إحساساً يغمرني الآن بأن يد الله نزعت عن روحها الآن كل غشاوة، و بأنها تدرك الآن كل شيئ، و بأن عينيها ترى الآن كل التفاصيل، و بأنها ربما كانت تود في لحظة كهذه أن تهمس فخورةً في أذن أبي. مثلما أتخيلها الآن و قد اختلطت ذكراها و هي تقلق من منامها قبيل الحادية عشرة كل مساء كي تتأكد من أنني مستيقظ أستمع إلى برنامج في الراديو لا تفقه منه كثيراً و لا يدعوها إلى الاهتمام به سوى حرص ابنها عليه و استمتاعه به ... برنامج اسمه "لغتنا الجميلة" كان قد ظهر في أعقاب النكسة لإنسان جميل اسمه فاروق شوشة.

سبحان الله مرةً ثانية، هو أيضاً بعث إليّ بهذه الرسالة بعد وفاتها:

"الحبيب يسري ... أعرف مرارة الكأس التي نتجرعها عند بغتة الرحيل لأمهاتنا، و قد ذقتها و أنا في العشرين و عانيت بعدها خواء الزمان و المكان، و لا يزال مذاقها في فمي حتى اليوم، و انغمست في دوار الحياة لعلي أتماسك، و أنا لا أجد ما أنصحك به أو أواسيك به. الكلام الآن يعجز، و الصمت أبلغ، و حبي لك أكبر و أعمق، و اسلم دائماً ... فاروق".

و سبحان الله مرة أخرى، الذين عرفوها أحبوها و الذين لم يعرفوها كذلك، و ربما أكثر. إن كان في روحي و في روحيْ أختيّ بعض من روحها فهو كرم من الله و نعمة، و إن كان في أخلاقنا خيط مما يمكن أن يُستحب فهو من نقاء أمنا و من صبر أبينا، غفر الله لهما و أسكنهما فسيح جناته و جعل منا ذرية صالحة كما ربيانا و كما نذرا حياتيهما في الدنيا من أجل مرضاة الله و من أجلنا.

جزا الله خيراً كل من دعا لأمي بالمغفرة و الرحمة و كل من أكرمها في حياتها أو في مماتها. أمام هذا الفيض من الحب الذي لم أكن لأستحقه لولاها أدين لكم بين يدي الله بالشكر و بالدعاء بألا يريكم الله مكروهاً فيمن تحبون، و بأن يقدّركم دائماً على أن تحتفوا بأهليكم و بأحبتكم في حياتهم و في مماتهم بعد عمر هانئ طويل. ألتمس منكم العذر إن كنت عاجزاً عن الرد، لكن لكل خطوة خطوتموها نحو سرادق العزاء و لكل كلمة تركتموها على هاتفي و لكل حرف سطرتموه هنا أو في أي مكان و لكل نفَس حاك بالدعاء جهراً أو سراً وقع البلسم فوق جرح تقبلناه حتى قبلناه. إنه قضاء الله و لا راد لقضاء الله و لقد رضينا بقضائه عز و جل، إنه هو الغفور الرحيم.

نقلاً عن الحساب الشخصي ليسرى فودة على "فيس بوك"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.