المرحلة القادمة فى مسيرة مصر بعد الثورة تستدعى أقصى درجات الانتباه واليقظة، خصوصا من قبل القوى الوطنية المنتمية للثورة والحريصة على تحقيق أهدافها، فالحاصل الآن أن المسرح يجرى ترتيبه بدهاء شديد، لكى يرفع الستار عن مفاجأة وقوف الثورة، والثورة المضادة فى صف واحد. شىء من ذلك حدث أمس فى قاعة المحكمة بمجلس الدولة، أثناء نظر دعوى بطلان الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، حين ضمت المحكمة جميع الدعاوى المرفوعة فى دعوى واحدة، وهنا تجاور عنوة محامو الثورة، مع منتمين للنظام السابق، فى مشهد عبثى بدا أنه وليد المصادفة، لكن هناك من يريد تكريسه لإدارة البلاد سياسيا فى قابل الأيام.
ومن المهم أن يعى المناضلون ضد النزعة الاحتكارية فى صياغة الدستور أن هذه مجرد واحدة من المعارك فى حرب طويلة، اسمها حرب تمكين الثورة، ومن ثم فالمعركة ليست ضد «التيار الإسلامى»، فى ذاته، وليست فى مواجهة الإخوان، بقدر ما هى مواجهة لمسلك يبدو مناقضا لمبادئ الثورة وقيمها العليا.
وعليه أكرر مرة أخرى سيكون انتحارا لو ارتمت القوى المدنية فى أحضان «العسكرى» نكاية فى الإخوان، ذلك أن معطيات المرحلة السابقة تؤكد أن الوضع الراهن هو من صناعة المجلس العسكرى بامتياز، والمأزق الذى انحشرت فيه مصر حاليا هو نتيجة طبيعية لأولوياته فى إدارة المرحلة الانتقالية، وبشكل خاص ما ترتب على مهزلة الإعلان الدستورى المفاجئ، الذى أعقب «فتنة التعديلات الدستورية».
ولكى لا ننسى أن قصة وسيناريو وحوار وإخراج وإنتاج الإعلان الدستورى كانت بالتشارك والتعاون بين المجلس العسكرى وجماعات الإسلام السياسى، وما تلا ذلك من أحداث كشف عن تناغم تام بينهما، أدى إلى الإطاحة بالقوى الوطنية والثورية خارج الصورة.
ولو قرأت تفاصيل ما جرى فى المحكمة أمس، من ذلك التجاور الذى بدا عفويا بين الدعاوى الرافضة لتشكيل الجمعية التأسيسية، ومددت بصرك ناحية ميدان روكسى، حيث عملية تدشين نائب مبارك مرشحا للرئاسة، ستكتشف أن لعبة قديمة تنتهى، وأخرى جديدة تبدأ الآن، واللاعب الرئيسى فيها هو المجلس العسكرى وأجهزته.
وفى اللعبة الأولى كانت الخطة مبنية على تشكيل «عسكرى دينى» يصوب على مرمى الثورة، أما فى الثانية فيبدو أن المدير الفنى يفكر فى اللعب بتشكيلة من المحسوبين على الثورة، مطعمة بعناصر فلولية، للتصويب على معسكر الإسلام السياسى، تحت شعارات تبدو فى شكلها جميلة وبراقة، مثل الحفاظ على مدنية الدولة ووحدتها الوطنية، لكن حقيقة الأمر تقول إن الرابح الأول فيها هو امتداد النظام السابق.
إن الثورات لا تدار بمنطق تكتيك التحالفات البراجماتية المؤقتة، ولا تعرف لغة «المصالح بتتصالح» لأن الثورة فعل أخلاقى بالأساس، ومنظومة قيم موضوعية استراتيجية فمن كان معها على هذه الأسس فأهلا به وسهلا، أما من يتظاهر بأنه معها، من أجل استثمار سياسى عابر، فهذا هو الخطر.