نقص التفاؤل يعنى نقصا فى الرؤية والمعلومات أكثر منه طبيعة شخصية. مثلا تحدثت خلال أيام ماضية مع بعض المواطنين المصريين الذين فقدوا الأمل. تاريخ مصر والمصريين هو تاريخ التحولات السياسية السريعة والمفاجئة، ومع ذلك يظل شعبنا قويا متماسكا قادرا على الاستمرار متطلعا لغد أفضل. ولنأخذ مثلا التطورات الكبرى فى آخر مائة عام. فقد وجد المصريون أنفسهم يتحولون بقرارات سياسية فوقية من «ولاية إسلامية» تتبع الخلافة العثمانية لأكثر من 450 عاما إلى دولة واقعة تحت الاحتلال البريطانى بالتعاون مع مجموعة من الملوك والزعماء الذين يجدون تحالفهم مع المحتل أنفع من تحالفهم مع زعماء الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، لتنتقل مصر إلى «زعيمة» الأمة العربية تقاتل باسمها ضد الصهيونية والإمبريالية فى أعقاب ثورة يوليو. وتأتى هزيمة 1967 لتفقد الثورة الكثير من شرعيتها، ثم يرفع انتصار 1973 الروح المعنوية للمصريين لكنهم يجدون أنفسهم، استيفاء لمتطلبات السلام مع إسرائيل، مطالبين بأن يضحوا بكل ما عاشوا من أجله فى السنوات الثلاثين السابقة من أجل استعادة الأرض؛ فبدلا من التفكير والتصرف كمسلمين أو كعرب كان عليهم أن يعيدوا «برمجة» أولوياتهم باعتبارهم «مصريين أولا» وأحيانا «مصريين فقط» وأن يجد علماء الدين ما يبرر السلام مع إسرائيل من آيات القرآن بنفس البراعة التى كانوا يحمسون بها الناس للقتال والجهاد ضد العدو الغاصب. ومع كل صدمة من هذه الصدمات، بدا وكأن المصرى يفقد جزءا من قدرته على تحديد هويته ويبدو للبعض وكأن مصر انتهت. وتكون المفاجأة أنها قادرة على تلقى الصدمات واستيعابها والخروج منها. وهو ما يبدو منسجما كذلك مع «خلاط» التغيرات المفاجئة فى بنية النظام السياسى الداخلى، فقد شهدت مصر وعاصر المصريون تحولات هائلة من الملكية مع التعددية الحزبية على عيوبها ومجتمع مدنى نشط نسبيا إلى نظام ثورى يلغى الأحزاب ويؤمم الصحف ويجمد المجتمع المدنى ويطلق لفظة «البائد» على كل ما كان سابقا عليه، وقبل أن تستقر الأوضاع يرحل الرئيس عبدالناصر ويأتى الرئيس السادات ليسير على خط الرئيس عبدالناصر «بالمسطرة» كما قيل. لنجد أنفسنا نعود إلى حالة من التعددية الحزبية الشكلية التى استمرت حتى عهد الرئيس مبارك الذى تبنى مزيدا من الانفتاح الإعلامى مع ضبابية فى حدود الحرية وقيودها، والسماح بمجتمع مدنى أكثر حرية ولكن أقل فاعلية مما كان عليه قبل الثورة. وفى علاقة النظام السياسى بأقدم جماعة معارضة فى تاريخنا، أقصد جماعة الإخوان، تتوالى الصدمات بين النشأة والتفاوض ثم الإلغاء والحل فى مرحلة ما قبل الثورة، ثم دعم الثورة والتحالف معها، ثم القبض على رموزها وإعدامهم فى عهد الرئيس عبدالناصر، ثم إخراجهم من السجن والسماح لهم بالازدهار فى بدايات عهد الرئيس السادات ثم الاعتقال فى آخر عهده، ثم توسيع هامش الحركة لهم فى عهد الرئيس مبارك مع تضييق هذا الهامش تباعا بعد فوزهم فى كل انتخابات سمح لهم النظام بالتنافس فيها سواء كانت اتحادات طلابية أو نقابات أو تشريعية. الشعب الذى يمر بكل هذه المحن والمتناقضات، ولم يزل عفيا، هو قطعا مجتمع قوى، وجماعته الوطنية ليست هشة، ولكنها بحاجة لقيادة ومؤسسية. وهو ما علينا أن نتحرك فى اتجاهها مع الانتخابات القادمة.