ما هو آخذ بالوضوح أن الحيوية الملهمة، التى ميزت حركات التغيير فى كل من تونس ومصر لم يكن لها مرجعية متماسكة، أو بالأحرى موحدة بالقدر المطلوب. هذا لا يعنى أن وجود طلائع قادرة ومؤهلة غير متوافر، لكن ما حصل بعد سقوط النظامين اعتبر الإنجاز بحد ذاته بمثابة انتصار واضح، وهو كذلك لكنه لم تتبعه بما فيه الكفاية خطوات تتميز، وكأن من صنعوا الانتصار وهنا التوصيف دقيق وصحيح لم يكونوا مهيئين بالقدر المرغوب إلى تأسيس مرجعية موثوقة قادرة على توفير البوصلة، التى ترسم بوضوح مراحل الانتقال إلى مشروع النظام البديل.. لماذا؟ عندما تحقق الانتصار ظهرت تعددية الرؤى وتناقضاتها ما أدى إلى عجز عن تحديد برمجة واضحة المراحل وإلى ظهور قوى كانت عصية على نقد الذات، وعلى إخراج نفسها من الانطواء على الذات، وبالتالى قررت احتضان الثورة الشبابية لعلها تكافأ بتمكينها أن تتولى قيادة ما عجزت بقواها الذاتية تحقيقه. يستتبع، أن الانتصار على النظام البائد كأنه لم ينطو بالقدر الكافى على قدرة رسم، وبالتالى توفير البدائل، وبالرغم من هذا النقص المؤذى أفسح المجال أن تدار المرحلة الانتقالية بمن اعترفوا بشرعية ثورة الشباب، ووفروا حماية صادقة، ما سرع فى إنجازاتها الملهمة، ومن ثم قامت قيادة القوات العسكرية بإدارة المرحلة الانتقالية ما مهد للتنظيم الواضح فى التزامه أن يوفر الغطاء لدستور دون ما توقعته ثورة الشباب، وإذ بالدستور الجديد جاء مبتورا فى صدقيته، وإلى حد ما نتيجة للتبعثر الذى ساد حالة ما بعد الانتصار فى ساحة التحرير، ومهد لفرض أوضاع حائلة دون الإصلاحات الجذرية، التى تعبر عن تطلعات ثورة الشباب فى كل من مصر وتونس. صحيح أن التشابه بين ثورتى تونس ومصر، كما الروابط بينهما كثيرة، إلا أنه ليس بالضرورة متطابقا، لكنه شكل حضورا فاعلا لمرجعية موحدة تضمن سلامة المرحلة الانتقالية إلى صيرورة الأهداف، التى تجاوبت الجماهير معها لحاجة ملحة لا لشعبى تونس ومصر فحسب، بل أن تكون إدارتهما أسهل لمواجهة تعقيدات المراحل الانتقالية فى المجتمعات والأقطار العربية، التى استوحت انتفاضاتها من التجربتين الرافدتين. من هذا المنظور فإن ما برهن عليه انتصارا ثورة الشباب فى تونس ومصر هو أن شعوب الدول العربية أكثر التحاما وبشكل تلقائى مما كان سائدا فى النظام العربى القائم الذى بدوره بحاجة إلى إعادة التكيف مع المستجد الثورى فى الحالة الراهنة. لذا علينا التعامل مع هذه المرحلة بضرورة الانتقال من مرحلة الإلهام إلى سلامة الالتزام، إذ إن ما حصل أخرجنا من حالة الإحباط والانكفاء وأعاد للأجيال بمختلف أعمارها رغبة المشاركة بإيصال تجاربها، التى كانت ملهمة فى زمانها وتلاشت نتيجة إخفاقاتها إلى الأجيال الشبابية حتى تبقى مسيرة الثورة مستمرة من دون تقطع وحتى يتمكن الثوار الملتزمون اعتبار نقد الذات هو البديل لهدر الفرص المتاحة وتهميش الطاقات الذاتية فى بناء النظم الجديدة المحددة. هذا الحوار بين الأجيال من شأنه تجنب أى رغبة فى الاستيلاء على إدارتها أو احتكارها.. كما أن نقد الذات يؤكد متانة الإنجاز ومناعة المشاركة فى إرساء وتفعيل عوامل وعناصر تأكيد ثوابت الثورة مع تمكينها من التكيف مع المستجدات. إن ما هو حاصل فى أقطار عربية أخرى يشير إلى أن التحركات الشبابية تتوقع من مصر الثورة أن تسهم فى توفير مرجعية رائدة، وهذا يحتم على شباب وحكماء مصر الثورة حوارا يعيد إلى الثورة إخراج الطلائع، التى حققت الانتصار على النظام المعوق بسلوكها الملهم والانضباط بالتزام وحدة المرجعية، لإدارة ما أنجزوه ومراجعة نقدية فورية تجيب عن سؤال: لماذا تعثرت المرحلة الانتقالية.. ولماذا بهت بريق الإلهام؟ وضوح الأجوبة عن هذا السؤال يعيد الإلهام من خلال صدقية الالتزام.. وتتوافر للنهضة العربية الشاملة صيرورتها الواعدة.