لعل توصيف الحراك الثورى العربى ب«الربيع العربى»، كان غير دقيق، كونه عبر عن مفاجأة ملهمة للعالم من خلال الإنجازات التى حققها شعبا تونس ومصر عندما اخترقا حواجز الخوف والاستكانة. هذا الاختراق هو الذى رسخ مسيرة الثورة العربية، ولكن قد يكون أسهم فى تأكيد ما هو مرفوض من استبداد ومن كان يمثله من طغاة، غير أنه لم يأخذ بعين الاعتبار، بما فيه الكفاية، إدارة التعقيدات التى يجب أن تتبلور فكريا ومؤسساتيا وسلوكيا. إذن، الحاجة ملحة إلى بقاء طلائع الثورة الشبابية وغيرها موحدة برغم تبايناتها وخلفياتها، على الأقل فى المرحلة الانتقالية التى تضمن مناعة البدائل المطروحة التى قد تكون متباينة بين العناصر التى فى أثناء وحدتها حققت الاختراق الذى تحوّل إلى عدوى، ما يفسر استيلاد الحراكات الشعبية فى عديد من الأقطار العربية كاليمن وسوريا وليبيا، وإلى حد ما، بداياتها فى أقطار عربية أخرى. يستتبع أن ما نجابهه فى هذه المرحلة هو إدراك متزايد فى تسريع المطالبات الملحة، تلبية لوضع ركائز رسم سياسات ما تستوجبه العدالة الاجتماعية، بما يعنى مقاومة الفقر وتمكين المجتمع المدنى بمختلف تجلياته كالنقابات العمالية والمهنية، وتمكين المرأة، واستقلالية تامة للقضاء وجميع حقوق الإنسان، وتلبية حاجاته. هذا ينطوى على استيعاب أن كل هذه السياسات تتطلب رؤى واضحة لكيفية تحقيق وضمان استدامة التنمية بكل مقوماتها. من هنا يتبين لنا أن الشروخات أدت فى كثير من الأحيان إلى تعثّر وتحويل التباينات الفئوية «المسماة مبالغة بالحزبية»، إلى تبعثر بعض المجهودات المطلوبة إلى خلافات كان بالإمكان اجتنابها حتى لا تكون وحدة الجماهير أكثر تماسكا من وحدة الطلائع القيادية التى تمثلها. ولأن التوصيف ب«الربيع العربى» يكاد يعطينا انطباعا بأن المرحلة الانتقالية سوف تكون ضامنة للبدائل المرغوبة، فمن هذا المنظور، بدأت الصلاحيات الممنوحة للسلطات الانتقالية تواجه تشكيكا فى صدقية التزاماتها، والحكم بكون الإجراءات المطلوبة لا تُلبى بالسرعة المنشودة، ما يكاد يعمق أزمة الثقة والتشكيك المتبادل الذى من شأنه أن يخرج المرحلة الانتقالية من كونها عنصرا مؤسسا للنظام الوطنى والاجتماعى البديل. صحيح أن بطء الخطوات لاختزال المراحل الانتقالية يعطّل شروط الصبر الثورى، بمعنى أنه لا يجوز فى هذه المرحلة المتسمة بالتعقيد لا التباطؤ ولا التسرع، حتى وإن بقى تباين، يجب ألا يتحول إلى أزمة ثقة أو ما هو أخطر من فقدان الثقة. صحيح أن هذا التوصيف يكون غير دقيق إذا حاولنا تطبيقه على كل الحراكات الثورية الحاصلة، فمثلا القيادة الشبابية فى اليمن لاتزال فى حالة توتر وأحيانا بعيدة من «اللقاء التقليدى المعارض» الذى تعدّه ثورة الشباب فى ساحات التحرير غير مستوعب لإمكان تحقيق التغييرات الأكثر جذرية من دون أن تكون أكثر تطرفا، كما أنه أحيانا تبدو حيوية الشباب التى أزالت حائط الخوف وزرعت بذور الانتفاضات الشعبية العربية، متلهفة لسرعة رسوخ مؤسسات ومعالم البدائل التى تلبى آمالهم، وبالتالى طموحاتهم المشروعة. كذلك الأمر فيما يتعلق بالانتفاضات كلها تقريبا، حيث كان عبء التعددية غير المعقولة للتنظيمات الكثيرة فى تونس، كأنها أصبحت تشكل ثقلا على صاغة المشروع الديمقراطى والليبرالى المنفتح، والتقدمى بتجلياته الاشتراكية أو غيرها، فى حين أن المطلوب ليس وحدة الاندماج بين هذه الأحزاب والطلائع والنقابات، بل إطار يضمن الحوار المجدى من خلال التنوع على أساس أن الإطار الطليعى فى تونس أو مصر، كونهما النموذجين اللذين أظهرا حاجة الأمة العربية إلى التغيير والنهضة والكرامة بكل أبعادها، وهذا يعنى أنهما سيتحملان مسئولية تأمين نموذج وتوفير مثال للمسئولية وإدارة التعقيدات الناشئة فى المرحلة الانتقالية، ومن ثم استقرار ورسوخ النظم البديلة، وحيث تتعثر الانتفاضات كما يحصل إلى حد ما فى كل من اليمن وسوريا، الأمر الذى يتطلب استيعابا أدق لطبيعة السلطات التى يواجهها أو يجابهها الحراك فى كل من الحالتين، باعتبار أنه بالإمكان إنجاز وتحقيق المرغوب من الإصلاحات دون العوائق التى يمكن لنجاح تجربتى تونس ومصر توفير آلية اختصار المراحل الانتقالية عندما يحين الوقت لها فى هذين القطرين. إن الاستثناء فى ليبيا لكون النظام فى حالة انكسار شرس وغيبوبة من الواقع المستجد، كما الاعتقاد الخطر بأن المفاجأة التى حصلت فى تحدى النظام تحولت بالنسبة إلى النظام الليبى إلى فاجعة. هذا الفقدان لقدرة الاكتشاف، والاعتراف بالتالى بشرعية الثورة والعجز عن تحمل صيرورتها، جعل العقيد القذافى بعيدا من الحقائق، متوهما استمرار سلطته المطلقة، ومعتبرا أن الأحداث الجارية تشويش مؤقت على حقه المطلق فى أن يكون هو مصدر السلطة، هذا الوهم يفسّر شراسة السلوك، حيث شكل سابقة تكاد تكون فريدة من نوعها فى التاريخ المعاصر، باستثناء ما حصل فى الحرب العالمية الثانية عندما كان زعيما الفاشية والنازية بحالة الإنكار المماثل. رغم أنه لم يحصل فى ذلك الحين ما حصل فى ليبيا من قبل النظام الذى أعلن حربا على الشعب، لذا نجد أن ليبيا استثناء فريد من نوعه، ما أدى إلى الاستعانة بالحلف الأطلسى وبعض الدول العربية الأخرى لتقديم مساندة ومساعدات وفق قرارات مجلس الأمن التى تقول بضرورة تطبيق مبدأ مسئولية حماية المدنيين. إن نقد الذات فى هذه المرحلة هو سلاح الحيلولة دون هدر الذات، وبالتالى حماية الذات لاستقامة مسيرة الحراك الثورى الحاصل حتى تتم الإنجازات التى كانت أحلاما وأصبحت من خلال الحراك الثورى الملهم مرشحة لأن تكون حقائق ماثلة. يبقى أن هناك مسئولية ضخمة تتحملها طلائع الثورات المستنيرة بأن توفر خاصة فى المراحل الانتقالية، المناعة التى تحول دون محاولات تطويق هذه الإنجازات التى لاتزال فى طور التحقيق، حيث إن هناك قوى متربصة بها تحاول ردع ما تراه عدوى، على اعتبار أن التطويق يمكن أن يكبت الحيوية الكامنة فى استكمال شمولية النهضة العربية، وألا تبقى الآمال معلقة أو مؤجلة، وإذا كان من نقص فى جميع ما أنجز، تبقى فلسطين مسئولية قومية تؤكد ما فاتنا استعادته.. وحدة المصير العربى.