خسرنا الدكتور محمد البرادعى رئيسا، فعلينا أن نكسبه زعيما روحيا وليس ميدانيا لمعارضة حقيقية تكون جسرا إلى تغيير فعلى يجعل مصر دولة مدنية ديمقراطية تحقق فعلا شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية». تختلف أو تتفق مع البرادعى لكن لا يمكن إلا أن تحترمه، لأنه كان علامة فارقة فى ثورة 25 يناير، صحيح أنها لم تكن ثورته وحده، أو ثورة الشباب، بل ثورة شعب بكامله لكن الرجل كان ضمير هذه الثورة لأنه الوحيد تقريبا الذى تحدى النظام علنا وتمكن من جمع كثيرين حوله.
الكلمات السابقة واللاحقة ليست مخصصة للرثاء بعد قرار البرادعى بعدم الترشح لرئاسة الجمهورية، بل هى مناسبة لتوجيه التحية لهذا الرجل الذى كان مبدئيا وصادقا مع نفسه ومع الآخرين.
كان يمكنه أن يقضى فترة تقاعده مع عائلته فى أى عاصمة أوروبية، أو فى حديقة منزله على أطراف الجيزة يسترجع ذكرياته ويكتب مذكراته، وكان يمكنه إذا أراد أن يحصل على أى منصب يشاء فى مصر، فى عصر مبارك وبعده، لكنه اختار الطريق الصعب، وتحمل رزالات وسفالات وبذاءات كثيرين، ورغم ذلك واصل المشوار مدافعا عما يعتقد أنه الصواب.
شرفت أننى كنت واحدا من مجموعة من الصحفيين والكتاب والسياسيين التقت البرادعى فى مكتبه قبل اعلانه سحب قرار ترشحه رسميا، وقلت إنه قرار صائب يقرأ الواقع جيدا، وأن البديل الافضل الان هو العودة إلى الشباب وبدء مشوار قد يطول ويحتاج جهدا دوءبا من أجل التغيير مع ضرورة البحث عن صيغة خلاقة تمزيج بين النضال السلمى وعدم التصادم مع نتائج الانتخابات.
الواقع يقول ان فرص البرادعى الانتخابية تضاءلت بعد حصول التيار الإسلامى على اغلبية البرلمان ثم مجلس عسكرى لا يكن معظم أعضائه الكثير من الود للرجل والأهم أن الدعاية المضادة نجحت فى «شيطنة البرادعى» لدى قطاع كبير من المواطنين الذين هم الناخبون.
قلت أيضا إن ما حدث هو هدف سجله منافسو البرادعى فى مرماه.. وبالتالى فالمطلوب هو «وقفة تعبوية» حسب تعبير الدكتور عبدالجليل مصطفى والانطلاق منها إلى العمل الميدانى الحقيقى والا يشعروا باليأس.
لا نريد للشباب أن يكونوا مثل سيزيف ذلك الشاب الذى حكمت عليه آلهة الإغريق بالعذاب واللعنة الأبدية بحيث يحمل الصخرة الضخمة من أسفل الجبل إلى أعلى قمته المدببة، فإذا صعد سقطت إلى الوادى فينزل ليحضرها ويصعد بها من دون توقف.
ما حققه البرادعى كبير، وما حققته الثورة لا ينكره إلا جاحد أو أعمى أو غارق فى التشاؤم، لكن كثيرين من أنصار الثورة اعتقدوا أن تنحى مبارك يعنى تحقق أهداف الثورة، وبعضهم لم يدرك أن الواقع الانتخابى مختلف تماما عن الصورة الوردية بميدان التحرير، ولذلك كانت الصدمة كبيرة.
احد أسباب سوء أحوالنا قبل الثورة أننا لم نمتلك معارضة فعلية بعد أن اخترقها النظام بمهارة، والمعارضة التقليدية خسرت بجدارة فى الانتخابات ويصعب تحولها لمعارضة حقيقية.
مبارك دمر البنية الأساسية للحياة السياسية ولذلك لم يجد الشعب أمامه إلا الإخوان والسلفيين، والأمل أن يتمكن البرادعى من تشكيل حزب شعبى حقيقى يعبر عن روح الثورة وعن التيار الرئيسى فى المجتمع، إذا حدث ذلك فإن البرادعى يمكن أن يقدم للحياة السياسية خدمة كبيرة.
أجد واجبا أخلاقيا يحتم على توجيه التحية إلى الدكتور البرادعى نظير كل ما قدمه لمصر،، على أمل أن يسارع بتشكيل حزبه على أسس راسخة، فما لم يدرك فى الرئاسة قد يتحقق بالمعارضة.