بات وضع المجلس الأعلى للآثار، فى حاجة ماسة إلى مراجعة شاملة من أجل تعظيم دوره فى الحفاظ على تراث الوطن، وتطوير أدائه فى سبيل الارتقاء بالعمل الأثرى، وكذلك زيادة إسهام موارده بالمزيد فى الاقتصاد الوطنى. إن بداية معالجة هذه المشكلة المتعاظمة تبدأ بتطوير دراسات الآثار فى مصر، إذ إنها تنحصر فى كليات الآثار وأقسام الآثار بكليات الآداب، فالتطورات المستمرة فى هذا المجال مزجت بين عدة علوم وعلم الآثار؛ كعلم الآثار البيولوجى أو علم الآثار البيئى وغيرها من التخصصات التى ما زالت غائبة عن دراسة الآثار فى كليات الآثار،. أدى الدفع المستمر بأساتذة جامعيين لإدارة المجلس الأعلى للآثار طوال السنوات الماضية إلى إحباط وسط العاملين بالمؤسسة، حيث افتقد الشباب الطموح نحو أى منصب داخل المؤسسة حتى أعير أساتذة جامعيون لمناصب أقل من منصب الأمين العام، وهو ما دفع ببعض الخبرات فى المؤسسة مع ضعف الأجور إلى الهجرة منها سواء لخارج مصر أو للهرب للعمل بالجامعات أو الانزواء جانبا، وهو ما سيصيب الأجيال الجديدة الشابة فى المؤسسة بالإحباط إن استمرت هذه السياسة. إن البون شاسع بين أن تدرس تخصصا فى علم بصورة عميقة وإدارة مؤسسة ضخمة بحجم المجلس الأعلى للآثار فى مصر، فتكون نتيجة الاستعانة بأساتذة جامعيين هو عدم إدراكهم أبعاد العمل المركب بين إدارة المواقع الآثارية أو الحفائر الآثارية، خاصة أن كليات الآثار معظمها يدرس مادة الحفائر كمادة ثانوية، فى حين أن خبرات العاملين فى المجلس المكتسبة أكبر بكثير من الدراسة. لكن إحقاقا للحق فقد كانت هناك إيجابيات فى الفترة الماضية يمكن البناء عليها، كما كانت هناك سلبيات، لكن الوقفة هنا تأتى أولا لتصحيح هيكل أجور الأثريين داخل المجلس الأعلى للآثار، إذ إن فاقد الدخل المعقول لا يعطى، فما بالك بمن يتولى شأن تراث بملايين، فالدخل المعقول للأثرى يبدأ بثلاثة آلاف جنيه، فضلا عن أن توصيف عمل الأثرى وحدود طبيعة عمله غير محددة إلى اليوم. فضلا عن عدم تحديد اختصاصات شرطة السياحة والآثار التى بنى لها مقر فخيم فى عين الصيرة من أموال الآثار، وعند سرقة أى آثر تستبعد من قوائم الإهمال والاتهام، بالرغم من مسئوليتها الأساسية عن تأمين المواقع الآثارية، ويذهب بالآثرى المسكين لأقسام الشرطة ليهان دون أن يجد حتى نقابة تدافع عنه، مما يفسر لنا الخلل فى منظومة حفظ وتخزين الآثار التى ما زالت فى العديد من المواقع دون المستوى المأمول سواء من طرق حفظ أو تخزين أو تأمين حديثة، وقد كان ديدن ضباط شرطة الآثار فى السنوات السابقة فرض سطوتهم فى المواقع الآثارية خاصة ذات الطبيعة السياحية، وهو ما يحتاج لمراجعة شاملة الآن. إن القول بأن العمل داخل المجلس الأعلى للآثار يتم بصورة جيدة هو قول يمكن الأخذ به، لكنه لا يتم بصورة ممتازة، إذ جرى عبر السنوات الماضية تجميد مفهوم العمل الآثرى، لولا اكتساب الخبرات عبر البعثات الأجنبية أو قيام بعض الآثريين بتطوير أنفسهم، وهو ما يسمح لى بالقول باطمئنان إنه لدينا ما يزيد على مائتى آثرى يمكن أن يكونوا واجهة لمصر على غرار ظاهرة الدكتور زاهى حواس، لكن لا توجد خطة مرسومة من المؤسسة للدفع بهم للحياة العامة. هناك قطاعان رئيسيان داخل المجلس الأعلى للآثار للعمل فى المواقع الآثارية هما: قطاع الآثار المصرية وقطاع الآثار الإسلامية والقبطية، ينقسم كل منهم إلى مناطق وتفاتيش للآثار، طبيعة عملها يجب أن تقسم من جديد إلى تخصصات جديدة، منها إرشاد الزائرين خاصة المصريين والعرب الذين لا يجدون فى المناطق الآثارية من يعتنى بهم، مع إضافة رسم إرشاد على تذاكرهم، هذا ما سيوفر مئات من فرص العمل، فضلا عن المتابعة الدورية لكل آثر من الناحية الإنشائية والفنية، إضافة إلى توفير فرق للصيانة الدورية للآثار بدلا من انتظار انهيار الآثر، كما يحدث عبر سنوات طويلة، دفعنا بعدها ملايين الجنيهات لترميم كل آثر. يعد الحفر الآثارى فى التلال مهنة صعبة، هذه المهنة التى يجيدها عدد كبير من الآثريين فى قطاع الآثار المصرية، لكن بدلا من أن تسجل الاكتشافات الآثارية باسمهم، تعطى المواقع المهمة للبعثات الأجنبية، فضلا عن توفير الإمكانيات اللازمة لعمل البعثات الوطنية المصرية، كما تم تجاهل التأمين على الحياة للعاملين فى هذه البعثات؛ إذ يتعرضون لمخاطر مثل أمراض العيون والأمراض الجلدية وحساسية الجهاز التنفسى، نتيجة الحفر فى المواقع الآثارية، فمن المعروف أن العمل بها يسبب العديد من الأمراض، بل عانى عدد من الآثريين نسبة اكتشافاتهم لغيرهم. لكن فى قطاع الآثار الإسلامية والقبطية الآثريين الذين يجيدون الحفر الآثارى عددهم قليل، وبعضهم إما خرج على المعاش أو خرج خارج المؤسسة والمتبقى منهم مهمّش. شهد ترميم الآثار فى مصر تطورا ملحوظا خلال السنوات الماضية، برز بصورة أساسية فى مشروع القاهرة التاريخية، لذا فاستكمال مدرسة مصرية متخصصة فى الترميم المعمارى والفنى أمر ضرورى، خاصة أن لدينا خبراء فى هذا المجال كالدكتور صالح لمعى والدكتور حسام مهدى ونيرى همبكيان وغيرهم.. تعد متاحف مصر الحافظ الأمين لكنوزها الفنية، لذا فإدارة متاحف مصر تحتاج لإعادة نظر، خاصة أنها ما زالت مركزية إلى الآن، فالمتاحف الكبرى يجب أن تدار عبر مجالس إدارتها وأن يكون لدى مديرها استقلالية وقدرة على اتخاذ القرار، كالمتحف المصرى والمتحف القبطى ومتحف الفن الإسلامى وغيرها، أما المتاحف الصغيرة فتتبع إدارة تجمعها وتعطيها درجة من الاستقلالية، إذ إن صيانة كاميرا أو فاترينة عرض أو تغيير مصباح إضاءة لا يستلزم فى هذه الحالة موافقة رئيس قطاع المتاحف، بل تقع على مسئولية مدير المتحف، فضلا عن أن معظم متاحف مصر بلا أدلة للزوار بلغات أجنبية عديدة، وهدايا تذكارية تعبر عن مقتنياته، وهى على سبيل المثال أحد الموارد الرئيسية للمتحف البريطانى ومتحف المتروبوليتان، فضلا عن ضرورة تدريب إدارات المتاحف بصورة مستمرة خارج مصر. لكن هناك البُعد الاقتصادى، فيجب أن يمتلك المجلس الأعلى للآثار شركة للمعارض تدير معارض الآثار، فيعظم عائد مصر منها، وشركة أخرى لإدارة المواقع الآثارية السياحية، وشركة لتطوير المناطق الآثارية خاصة الجديدة التى تحتاج لاستثمارات تضخ فيها، وشركة للمطبوعات والهدايا التذكارية والقطع الآثارية المقلدة.. إلخ، مع ضرورة فصل إدارة هذه الشركات عن إدارة العمل الآثارى لأن ما هو اقتصادى ليس بالضرورة مناسبا لفكرة الحفاظ على التراث الوطنى المصرى، إذ إن هناك أموالا ستضخ للحفاظ على هذا التراث وتقديمه للمصريين بعيدة بُعدا كبيرا عن فكرة المكسب المادى. إن دخل مصر من الآثار ما زال ضئيلا، ويجب أن يمثل نسبة معقولة من الدخل العام لمصر، إذ لا يعقل أن نستورد القطع المقلدة لآثارنا من الصين وماليزيا وإندونيسيا، وأن نهمل الحرف التقليدية التى يجب أن تتحول إلى أحد مهام المجلس الأعلى للآثار، لأن وجودها يرتبط بالحفاظ على التراث الوطنى. فضلا عن هذا كله يجب نقل تبعية عدد من المتاحف للمجلس الأعلى للآثار لإهمالها فى الجهات التابعة لها كالمتحف الزراعى والمتحف الجيولوجى، وإخضاع التابعة لجهات مختلفة فى مصر لرقابة شبكة وطنية للمتاحف تضع معايير المتاحف والعمل بها والعاملين فيها، على أن تدعم هذه الشبكة بعض المتاحف المهمة كمتاحف الجمعية الجغرافية المصرية التى تعد من أندر وأهم متاحف مصر. من المهم أيضا دراسة جدوى بعض المشاريع الآثارية وفق نوعية من الدراسات المركبة كالمعطيات الثقافية والآثارية والاقتصادية والاجتماعية للمشروع، فمشروع متحف كفر الشيخ مشروع فاشل بكل المقاييس ويجب إعادة النظر فيه، فى حين جاء متحف شرم الشيخ أضخم من الحجم المنطقى له، وتأخر مشروع تطوير هضبة الهرم وتأخرت بالتالى مكاسب مصر منه، فى الوقت الذى أصبحت فيه قلعة صلاح الدين وميدان القلعة أكبر ميدان آثرى فى مصر دون مشروع كبير ملائم، حتى أصبحت القلعة مهددة وفى خطر، وميدان القلعة أكبر ميدان آثرى فى العالم به مدرسة وخزان مياه ومقر للحزب الوطنى، فى الوقت الذى أصبحت تلال شمال دلتا النيل فى خطر كبير إما لارتفاع المياه الجوفية أو لتآكل سواحل البحر المتوسط، فضلا عن تضارب وفشل التعامل مع المبانى الآثارية والفيللات التاريخية التى تعود للقرن العشرين.. هذا يطرح ضرورة وضع إستراتيجية وطنية للتعامل مع إدارة آثار مصر.