فقد القضاة هيبتهم ورونقهم ومكانتهم بسبب الهزائم العسكرية والسياسية للدولة العثمانية.. وهذا يؤكد أن القوى يحتاج لدولة قوية مستقرة عرفناهم لأول مرة فى العصر المملوكى.. وكانوا أقل درجة من قضاة المذاهب الأربعة.. ومهامهم اقتصرت على الفصل فى المنازعات بين الجنود.. وإمدادهم بالفتاوى
.زاد نفوذ المنصب أيام الدولة العثمانية.. واتسعت سلطاته.. وأصبح هو الحاكم الشرعى فى مصر الموازى للحاكم السياسى «الباشا»
تحدثنا كتب التاريخ، أنه بعد مقتل توران شاه ابن الصالح أيوب وسقوط الدولة الأيوبية وتولية شجرة الدر سلطانة على البلاد نشأت دولة المماليك فى مصر والشام. وبحكم انتماء المماليك إلى أصول ترجع إلى الرق فقد عمدوا إلى الاهتمام بالمظاهر الدينية ولاسيما القضاء ونظمه والقائمون على شئونه، واستمر العمل فى القضاء بالمذهب الشافعى فى عصر المماليك لأن أغلبية أفراد الشعب كانوا ينتمون إليه، وظل الحال هكذا حتى عهد السلطان بيبرس البندقدارى الذى أدخل لأول مرة العمل بالمذاهب الفقهية الأربعة، الشافعى والمالكى والحنفى والحنبلى، وصار لكل مذهب قاضى قضاة خاص به يعينه الحاكم المملوكى مع وجود وضع خاص لقاضى قضاة المذهب الشافعى. هؤلاء القضاة الأربعة ومن يتبعونهم من قضاة كان يطلق عليهم قضاة الشرع واختصوا بتناول قضايا الأحوال الشخصية والتركات، كما اختصوا بالنظر فى جميع القضايا الجنائية، وأيضا دعاوى إثبات الحقوق والأموال. واتسعت سلطة القاضى الشرعى بحيث تضمنت أمورا ليس لها علاقة بالقضاء ولكنها ضمت إليه حسب العرف كالأوقاف وتعليم العلوم الشرعية وشأن خزانة مصر.
ولم يكن القضاء فى دولة سلاطين المماليك مقصورا على قضاة المذاهب الأربعة، فقد ظهر إلى جانبهم «قضاة العسكر» وهم المسئولون عن القضاء بين الجند فى الجيش المملوكى. ومن مهام قضاة العسكر إمداد الجند بما يحتاجون إليه من فتاوى، ومرافقة الجيوش فى حروبها حتى يفصلوا فى منازعات الجنود، وكذلك الفصل بين العسكر ومن يعملون معهم فى قطاع الجيش من الإداريين والصناع والعمال بشرط أن يكون المدعى عليه من العسكريين. وكان مجلس القضاة «دار العدل» يضم قضاة العسكر مع قضاة المذاهب الأربعة رغم اختلاف الاختصاصات واعتبروا ذلك جزءا من القضاء الشرعى ولكنهم كانوا أقل درجة من قضاة المذاهب.
وعندما كانت دولة سلاطين المماليك فى طور شبابها القوى، فقد فرضت سطوتها وأدت دورها فى الدفاع عن العالم الإسلامى على مدى يزيد على قرنين ونصف من الزمان، حينئذ كانت مصر مقصدا للعلماء والفقهاء وطلاب العلم من شتى أرجاء الأقطار الإسلامية كما صارت معقلا لقضاء مستقل مستكمل مقوماته. وتكشف وقائع التاريخ أنه فى نهاية عصر السلاطين «الجراكسة» ضعفت الدولة المملوكية وتعرضت لضربات موجعة من التتر وغيرهم، وتدهورت أحوالها وانعدم الأمن فى ربوع البلاد مما أسهم فى خلق فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية، وكثرت الفتن والمنازعات الداخلية وأغلقت الأسواق والحوانيت. فى هذه الفترة الأخيرة من عمر دولة المماليك لم يكن مستغربا تدخل السلاطين والأمراء فى اختيار القضاة (عسكر وغير عسكر) وفى الفتاوى الشرعية والأحكام القضائية، واتخذ كل أمير مجموعة من العلماء والقضاة يحتضنهم ويدافع عنهم ويعتبرهم من أخصائه، لذا فلم تكن وساطة أو رغبة الأمير ترد أو تناقش. فى نهاية العصر المملوكى تدخلت السياسة والدسائس والأزمات فى القضاء فتدهور حاله مما أدى إلى انهياره من الناحية الواقعية، وامتنع الفقهاء الحق عن تولى منصب القضاء وفروا منه بل اختفى بعضهم عن الأعين حتى لا يُكره عليه. وبقى الصغار (ضعاف العلم والنفوس) فى هذا المنصب فى حياة من الدعة والترف بعد أن وضعوا مصالحهم مع مصالح الطبقة الحاكمة فى سلة واحدة.
فى الدولة العثمانية التى قامت على أساس دينى وجد منصب «قاضى العسكر» الذى تمتع بوضع خاص ومكانة كبيرة والكثير من التقدير والإجلال من قبل الجميع. وزاد نفوذ قاضى العسكر واتسعت سلطاته حيث كان يصحب الجيش العثمانى فى أثناء حروبه، وصار من اختصاصاته تعيين القضاة داخل الأجزاء والولايات التى خضعت لنفوذ الإمبراطورية العثمانية القوية. وكما تكشف مصادر التاريخ فقد اتصف القضاة فى ولايات الإمبراطورية الفتية تحت إشراف قاضى العسكر ومراقبته بمتانة الخلق واتساع العلم ودقة الدرس وعدم المحاباة والحكم وفقا لمبادئ الشرع الإسلامى. واشترك قضاة العسكر فى الديوان السلطانى العثمانى الذى كان يرأسه السلطان أو الصدر الأعظم، وكان لهذا الديوان بعض الاختصاصات القضائية فى عدد من المسائل السياسية والإدارية «بمثابة مجلس الدولة فى عصرنا».
بالجملة فإن السلطة القضائية فى الدولة العثمانية جمعت فى شخص واحد هو قاضى العسكر بحسبانه رئيس هيئة القضاء فى جميع أرجاء الدولة المترامية الأطراف يقوم بالعمل على تثبيت نفوذ السلطان العثمانى. فالحكام الأتراك عمدوا إلى بسط العدالة على جميع رعاياها من خلال جهاز قضائى قوى ومستقر يقوم على نخبة ممتازة من علماء الشرع لانعكاس ذلك على أحوال الرعية، وكذلك لارتباط الأحكام القضائية بالإسلام الذى هو ركيزة شرعية الإمبراطورية فى كل أقليم خاضع لها.
فى عام 1517 وبعد هزيمة دولة المماليك فى مرج دابق والريدانية «العباسية حاليا» ومقتل طومان باى تحولت مصر من بلد مستقل إلى مجرد ولاية تابعة للدولة العثمانية، وهال العثمانيين حال السوء والفوضى التى وجدوا عليها أحوال القضاء فى مصر، فشرعوا فى تحسينه وربطه بالهيئة القضائية التى يرأسها قاضى عسكر عاصمة الإمبراطورية «استانبول». وتتابعت خطوات الإصلاح القضائى وصار المذهب الحنفى هو مذهب الدولة الرسمى وتغير مفهوم قاضى العسكر فى مصر عما كان عليه الحال فى عصر سلاطين المماليك. قاضى العسكر فى مصر العثمانية غالبا ما كان من العلماء الأتراك، ذلك أن آل عثمان كانوا قد سنوا شروطا صارمة لتولى منصب القضاء فى أى من الولايات العثمانية، ومنها شرط الخضوع لطريق دراسى صعب وطويل عن طريق المعاهد العلمية الموجودة فى إستانبول.
● فى العصر العثمانى قسم الإقليم المصرى (خارج القاهرة) إلى ستة وثلاثين قضاء، وكان تعيين القضاة فى هذه الأقاليم القضائية يتم بواسطة قاضى عسكر الأناضول، وكان يطلق عليهم قضاة الشرع، كما أنهم كانوا درجات أعظمهم شأنا قضاة المديريات البحرية والثغور، وكان أغلبهم من الأتراك خصوصا فى بداية العصر العثمانى. أما القاهرة ونواحيها فكانت تخضع لقاضى عسكر مصر الذى كان يعين بموجب براءة من قبل السلطان العثمانى مباشرة بناء على ترشيح قاضى عسكر الأناضول. ومع ذلك فلم يكن لقاضى عسكر مصر رغم مكانته فى البروتوكول العثمانى وتوليه المحكمة الكبرى أية سلطة قضائية على قضاة الأقاليم. بل اقتصرت ولايته على قضاة القاهرة وحدها (بمثابة رئيس محاكم القاهرة)، وكان يصدر إلى قضاة أخطاط القاهرة مراسيم تعيينهم (وعزلهم) وتحديد اختصاصاتهم باعتبارهم نوابا له، وأيضا تولى قاضى عسكر مصر (ومصر هو الاسم الشائع للقاهرة حينذاك) أمر تعيين قضاة المذاهب الفقهية الأخرى غير المذهب الحنفى فى محاكم أخطاط القاهرة، وغالبا ما كان قضاة المذاهب هؤلاء من أولاد العرب الشوام أو المصريين الذين تلقوا تعليمهم الفقهى فى إستانبول على أن تكون رئاسة كل محكمة أخطاط منوطة بالقاضى الحنفى (التركى الأصل غالبا).
● فى العصر العثمانى احتل القضاة مكانة كبرى فى مصر، وغدا قاضى العسكر هو الحاكم الشرعى فى مصر الموازى فى المكانة للحاكم السياسى «الباشا». ومع ذلك لم يحاول قضاة العسكر التدخل فى شئون الأزهر أو فرض المذهب الحنفى عليه، بل أظهروا فى معظم الأحيان الاحترام تجاه الأزهر وعلمائه، ومثل هؤلاء العلماء قوة رقابية فعلية على القضاة، فكانوا بمثابة المراقبين على تصرفاتهم وأحكامهم فى مختلف القضايا، وترتب على ذلك أن القضاة كانوا يحسبون لعلماء الأزهر حسابا كبيرا فقلت نسبة الخطأ فى الأحكام وحسنت سيرة القضاة. ونلاحظ هنا أن الدولة العثمانية لم تمنع أحدا من رعاياها المسلمين جميع من تولى وظيفة القضاء والوصول إلى أعلى المناصب القضائية وذلك إذا حصلوا على التعليم القضائى المناسب فى مدارس استانبول مع توافر شروط النزاهة والصلاحية. ولكن بسبب بعد استانبول عن القطر المصرى وعدم ميل المصريين إلى الرحلة خارج ديارهم، فقد قل عدد القضاة المصريين إلى حد كبير. ولكن بعد قدوم الفرنسيين إلى مصر عام 1789 تولى القضاء فى مصر علماء الأزهر دون أن يكونوا قد تعلموا فى إستانبول، وتقلص بالتالى دور الترك.
● بصفة عامة تمتع القضاة فى فترات طويلة إبان دولة قضاة العسكر فى العصر العثمانى بمكانة عالية بين المصريين لما اشتهروا به من نزاهة وحرص على مصالح الناس. وبمرور الوقت نزلت الهزائم العسكرية والسياسية بالدولة العثمانية ووهنت قبضتها على أجزائها. وفى مصر تشابكت العلاقات وتداخلت المصالح واسترد الأمراء المماليك الكثير من مكانتهم السياسية والاجتماعية التسلطية، وكثرت الفتن بين الباشوات والصناجق والشيوخ، وساءت أحوال البلاد وتفاقمت أمور السلطة والاقتصاد وتدهور التعليم وتجمد المجتمع ككل وصارت كل الطرق مسدودة. وانعكس ذلك الضعف العام على حال القضاء، فوصل هو الآخر إلى نفس الطريق المسدودة، ففقد هيبته ورونقه ومكانته، لأن القضاء القوى يحتاج إلى دولة سليمة قوية مستقرة.
فى أوقات الضعف هذه التى تحدثنا عنها يسجل المؤرخ «ابن إياس» قصيدة مطولة لأحد الشعراء المصريين، يحرقها الحزن وتمزقها الحسرات، جاء فى مطلعها:
فشا الزور فى مصر وفى جنباتها ولم لا وعبدالبر قاضى قضاتها