يروى عن الإمام الحسن البصرى أن رجلا من أهل العراق ذهب إليه عشية موت الحجاج بن يوسف الثقفى، حاكم العراق فى ذلك الوقت، وذراع الخليفة الأموى القوية، وسفاح الدولة الأموية بلا منازع، وصاحب مذبحة المدينة، وقاتل عبدالله بن الزبير، والمجرم الذى قذف الحرم المكى بالمنجنيق. أقبل الرجل على الإمام، وسأله: يا إمام: «قلت لصاحبى فور سماعى نبأ موت الحجاج إنه فى النار، ولما عارضنى بدعوى عدم الاطلاع على الغيب أقسمت (طلاقا بائنا) بأن الحجاج فى النار.. فماذا أفعل بيمينى، وما موقف زواجى شرعا؟».
فكر الإمام كثيرا فى الأمر، وكانت الحيرة تستبد به.. الرجل أقسم طلاقا على زوجته، ومطلوب أن يتأكد من مصير الحجاج، إن كان فى النار يكون اليمين صحيحا، وإذا كان فى الجنة يقع اليمين وتصبح زوجته «طالقا»، وفجأة وجدها الإمام وكأن وحيا أتاه من السماء وقال للرجل: «اذهب يا هذا فوالله لو دخل الحجاج الجنة.. ما ضرك أن تلقى الله زانيا».
لم يكن الحسن البصرى قاضيا أو إماما معزولا عن مجتمعه، كان جزءا منه، مندمجا فيه ويعرف أزماته ومشاكله وآلامه، يعرف المصلحين والمتجبرين، يعرف المفسدين والناصحين، يعرف قساة القلب والصالحين، لذلك لم يتعامل مع أزمة الرجل الذى لاذ به بتجرد، ولم يخضع أقواله لقانون الإفتاء الشرعى الصارم، لم يطبق عليه قاعدة «1 + 1 يساوى 2» لم يقل له أقسمت يمينا صعبا أداءه وإظهار صدقه من كذبه. وفى النهاية أصدر حكما متوافقا مع القانون «نصا وروحا» ويحل مشكلة الرجل ويحمى زوجته، ويستشعر حقيقة مجتمعية عليها إجماع كامل من الرأى العام، وهو إجماع لمسه الإمام الحسن البصرى بنفسه، وعاشه وتعايش معه، وشاهده بعينيه، وأحسه بقلبه.
المؤكد إذن أن من ينظرون للمخلوع وكأنه برىء من أى مسئولية عن قتل المتظاهرين وعن ثلاثين عا.ما من الإفساد والتجريف والانهيار، لديهم أزمة حقيقية قبل أن تكون فى عقولهم التى ترفض حتى المسائل الحسابية الصارمة، وتحاول أن تلتمس للرجل عذرا بأنه حسب ادعائهم كان لا يعرف، دون أن يفهموا أن هذه جريمة فى حد ذاتها تستوجب إدانته، لديهم أزمة حقيقية أيضا فى ضمائرهم وأخلاقهم، التى تجعلهم ينحازون لباطل واضح.
قد تكون أوراق القضية مختلفة عن الواقع، من حق القضاة أن يحكموا بما لديهم من أوراق، لكن للرأى العام حسابات أخرى، ولعقلى وعقلك حسابات أخرى، فالمسألة فيما يخص المخلوع لا تتعلق فقط ببضعة أيام قتل فيها المتظاهرون، لكنها تتعلق بثلاثين عاما كل مصرى عاش خلالها كان شاهدا على سبب من أسباب الإدانة.
المؤكد أن هؤلاء المدافعين عن مبارك ينتظرون ما تصدره المحاكم من أحكام، لكنهم لا يعرفون أن فى قضايا الشعوب لا تصلح أحكام القضاة فى رد اعتبار من سقط أمام الشعب، ودلائل إدانته مرسومة على الأجساد وفى جراحات الصدور، والمؤكد أنهم لم يستوعبوا كل ما سبق، وإلا لفعلوا مثل الحسن البصرى، واستفتوا قلوبهم فوجدوا اليقين.