سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
(الشروق) داخل مركز التحكم فى الطاقة بحثًا عمن يمسك «سكينة» إظلام مصر وإضاءتها الرجل الذى يقطع الكهرباء يتحدث : لا يهمنى اسمك لا يهمنى عنوانك.. تهمنى «الميجاوات»
في قلب ميدان العباسية يطل المقر الرئيسى للشركة القابضة لكهرباء مصر على وسط وشمال العاصمة، وعلى أطراف قرية سقيل فى طريق القناطر الخيرية يظهر المركز القومى للتحكم فى الطاقة، يحتل مساحة شاسعة من الأرض ويقبع فى هدوء بجوار شركة كهرباء غرب القاهرة. المسافة بين المبنى المميز فى العباسية والمبنى المهم فى سقيل تقطعها السيارة في ساعتين لتعادل تقريبا المدة التى تقطع فيها الكهرباء يوميا عن أغلب بيوت المصريين.
المشهد الذى يتخيله الجميع يتلخص فى رجل واحد يقف امام سكينة كهرباء في منطقة مركزية، يقرر اليوم ان يفصل الكهرباء عن بيت فلان، ثم يختار غداً بيتا جديدا، وبين بيوت يسودها الظلام لساعات طويلة، ومناطق فقيرة لا يمتلك سكانها سبل الرفاهية في الاستهلاك، ومحافظات هى الاقل كثافة بين أقرانها، يظن الجميع ان أهواء ذلك الرجل فقط هى التى تحدد المكان والزمان الذين ستظلم فيه البلاد الليلة.
فى المركز القومى للتحكم في الطاقة تظهر شبكات الكهرباء التى تمد الجمهورية كلها بالطاقة، وعلى شكل أرقام ورسوم بيانية وخطوط منحنية صعودا وهبوطا وفقا لمعايير محددة، يسير معدل الاستهلاك اليومى للكهرباء، وعندما يصعد الخط الذى يربط بين الساعة والاستهلاك وتصبغه الشاشات باللون الأحمر لتعلن تخطيه حدود الطاقة المتاحة، تقطع الكهرباء.
«لا نتحكم فى قطع التيار عن منطقة معينة، لكننا نبلغ شركات الإنتاج وشركات النقل والتوزيع بأن الاستهلاك يفوق قدرتنا على التوليد، وفصل التيار لا يعنى توفيره، لكنه يعنى اننا غير قادرين على تلبية احتياجات المواطنين»، هكذا قال مدير قطاع التحكم فى الكهرباء ل«الشروق» عندما زارت المركز، وشرح مع المتحدث الرسمى باسم الوزارة كيف تقطع الكهرباء عن مصر يوميًا.
فى السابعة مساء أو قبل ذلك بقليل بدأت الاستعدادات فى منزل المهندس أيمن فى مدينة نصر، أضاءت زوجته أنوار المنزل وبدأت التكييفات المنتشرة فى كل الغرف تبرد انحاءه، فى استعدادات استثنائية لاستقبال أفراد العائلة على مائدة افطار رمضان.
توافد الضيوف. بعضهم تأخر فى عمله فجاء مباشرة إلى العزومة السنوية، وآخرون محت حرارة الجو المرتفعة من على وجوههم ملامح الراحة والنوم.
على الشاشة الكبيرة فى غرفة الاستقبال صوت يقول «مدفع الإفطار.. اضرب»، وعلى شاشة أكبر منها فى غرفة التحكم ظهرت مؤشرات يقرؤها المهندس والفنى فقط فى مركز التحكم تنبئ ببدء فترة الذروة، وعندما خرج صوت المدفع مدويا ليعلن موعد الافطار، أصدر المهندس طلعت أبوزيد مدير قطاع التحكم أمرا لمركز التحكم الإقليمى بالقاهرة بفصل 100 ميجا وات كهرباء، وهو الأمر الذى تم تحويله إلى شبكة التوزيع والتحكمات المحلية لتنفيذه.
فى وحدة التحكم المحلية التعليمات واضحة، لا نقطع الكهرباء عن محطات المياه والصرف الصحى والمستشفيات والبنوك والسجون وبعض المبانى الحيوية، لأن تلك المبانى تسمى بلغة العاملين فى الكهرباء مناطق أحمال مهمة، وبالتالى تقول التعليمات إن الفصل يكون فى مغذيات البيوت فقط قدر الإمكان.
كان عدد الضيوف فى منزل المهندس أيمن قد اقترب من العشرين، ووصل 25 بعد أن نادت كل أم على ابنها الذى نزل قبل قليل لرؤية زينة رمضان المعلقة فى البلكونات المجاورة، عندما فاجأ الجميع قرار مركز التحكم المحلى فى الكهرباء بفصل التيار الكهربائى عن المنطقة التى يسكن بها أيمن ويستضيف فيها أفراد عائلته.
على شاشات مركز التحكم القومى يظهر العجز، يزيد معدل استهلاك الكهرباء بشكل كبير حتى انه يخرج عن نطاق الطاقة غير المستعملة، ويستمر هكذا لمدة طويلة، ويصدر أمر جديد لباقى الشركات فى الإسكندرية والقناة وغرب الدلتا ووسط الدلتا ونجع حمادى بفصل 500 ميجاوات أخرى قبل أن تنهار الشبكة.
«اهو ده اللى انا ماعملتش حسابه، ولاد ال.... بتوع الكهربا دول مش بيقطعوها إلا ساعة الفطار»، بانفعال قالها أيمن، ليرد عليه أخوه قائلا «آدى البلد لا كهربا ولا ميه ولا حتى بنزين، حاجة تقرف»، وتعليقات أخرى من نوعية «بيعذبوا الناس ولا بيعاقبونا؟»، و«حرام يعملوا فينا كده فى رمضان»، و«يا ترى الكهربا بتقطع عند الوزرا والرئيس ولا بتقطع على الشعب الغلبان وبس؟».
صوت واحد فقط هو الذى قاوم انفعاله وغضبه ليقول «يا جماعة ما وزارة الكهربا قالت اكتر من مرة ان السنة دى فى أحمال زيادة على الشبكات، ما تنسوش ان رمضان جاى فى عز الحر، ده غير المسلسلات اللى الناس بتسهر عليها طول الليل»، سكت الجميع، فظهر صوت حديث الاطفال، «انت عارف العمارة اللى جنبنا معلقة كام فرع نور على الباب، 7 فروع أنا عديتهم»، «والشقة اللى فى الدور الثالث بردو عاملين زينة كتير أوى فى البكونة»، أخذ الأطفال يتناقشون فيما فاجأ أحدهم عمه، متسائلا «هو انت معلق كام فرع نور فى البلكونة يا عمو؟»، وأجابه بصوت خافت «3 يا حبيبى».
زينة رمضان المنتشرة بشكل كبير وزائد هذا العام، والتى أوضح أحمد الطيب صاحب مجموعة محال متخصصة فى بيع معدات الإضاءة والكهرباء أن الإقبال على شرائها كان أكثر من الاعوام الماضية بنسبة تصل إلى 20% تقريبا، أحد المؤثرات التى أدت إلى حدوث العجز فى الاستهلاك الكهربائى والذى يبدأ فى الظهور على شاشات المركز القومى للتحكم بدءا من الساعة السادسة مساء ويصل ذروته فى السابعة والنصف، وفقا للدكتور أكثم أبوالعلا وكيل وزارة الكهرباء والمتحدث الاعلامى باسم الوزارة، «المشكلة أن فترة الذروة أصبحت مستمرة حتى الواحدة ليلا بفعل عوامل كثيرة فى رمضان».
فى التقارير اليومية التى يرسلها مركز التحكم إلى مقر الشركة الرئيسى تظهر معدلات الاستهلاك تزيد على حدود الطاقة غير المستعملة، وهى الطاقة التى لا يتم استغلالها فى الاوقات العادية كما تشرح المهندسة صباح وكيل وزارة الكهرباء، ويسير معدل الاستهلاك الزائد بشكل ثابت تقريبا لمدة تصل إلى 5 ساعات متواصلة.
ساعة واحدة مرت على عائلة المهندس أيمن توقف فيها الجميع عن تناول الطعام رغم أنوار الكشافات التى عثرت عليها الزوجة فى المنزل، قبل أن تفاجئهم ومضة نور قوية ويعلن صوت محركات التكييف عن عودة التيار الغائب.
«احنا مش بنقطع الكهرباء عن البيوت ولا عن مناطق محددة، احنا هنا مانعرفش مين هيتقطع عليه الكهربا ومين لأ، المهم انى عندى عجز ولازم أفصل عددا معينا من الميجاوات»، دافع المهندس طلعت عن مركزه الذى ينظر إليه كثيرون باعتباره المتحكم الرئيسى فى قطع الكهرباء عن البيوت، «حتى تفاصيل المناطق التى يفصل عنها التيار والأماكن التى تليها ليست عندى، كل شىء عند الدكتور أكثم فى الوزارة».
التراويح نهاية فترة الذروة
انطلق صوت المؤذن رافعا صلاة العشاء، وبالتوازى معه جاء صوت 10 تكييفات قوية تبرع بها أولاد الحلال وأبناء المنطقة لتسهيل أداء شعائر الله على عباده، ورغم أن الأستاذ على دياب الساكن فى الدور الأول فوق مسجد الرحمن المقام أسفل العمارة بمنطقة جسر السويس، كان يرى أن التكييفات العشرة كثيرة على مسجد مساحته لا تتعد 80 مترا، الا أن الشيخ جمال عبدالله الإمام الذى عينته الاوقاف للمسجد أقنعه بأن الكثافة داخل المسجد أثناء صلاة التراويح يصبح معها تكييف المكان ضرورة قصوى.
ولأن عداد كهرباء المسجد منفصل عن عداد العمارة، ولأن السكان لا يتحملون شيئا من نفقات تلك الكهرباء، ولأن وزارة الأوقاف هى المسئولة عن تحمل كل التكاليف فقد قال على لنفسه «خلاص اهم كلهم حكومة مع بعض يتصرفوا بقى».
«الله أكبر» بدأت معها الصلاة، وفى مكبر الصوت الذى يعلو العمارة قرأ الامام الربع الأول من الجزء الثامن عشر، ثم غاب الصوت فجأة. انقطعت الكهرباء عن المسجد، توقف المكبر وانطفأت اللمبات الكثيرة الموزعة داخل وخارج بيت الله، وأخذ الحر يتسلل من النوافذ التى فتحها الناس اضطرارا بعد توقف المكيفات، وراح المصلون يتناقصون شيئا فشيئا خلال الركعات الثمانى المتتالية، رغم تركيز الامام على الآية الكريمة «الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح».
6 ملايين تكييف على مستوى الجمهورية، هو الرقم الذى تظهره احصائيات الاستهلاك التى ترد وزارة الكهرباء، وتفصيليا يقسم المسئولون زيادة الاستهلاك التى بلغت 12% هذا العام والخاصة بالمشتركين فى المنازل والذين يصل عددهم إلى 27 مليون مشترك عداد، وفقا لتقارير زيادة الاحمال فى الشبكات إلى تكييف وإنارة وزينة، كما أوضح وكيل وزارة الكهرباء.
من هنا يحدث العجز
«درجة الحرارة النهاردة فوق الاربعين واحنا مش عارفين نتنفس»، فى مكتب المحافظة الواقع على نيل الأقصر مباشرة، وقف الحاج عبدالعزيز يسلم الموظف شكواه عن انقطاع الكهرباء عن قرية المريس لساعات طويلة خلال اليوم، رافضا الرد الذى مل من سماعه منذ بداية رمضان «الاحمال زيادة هنعمل ايه»، انفجر الرجل غضبا وقال «يعنى المساجد الكبيرة اللى فيها 500 لمبة دى ما عتستهلكش كهربا؟، ولا الكهربا تجطع عا المسلمين الغلابة بس؟».
485 ألف نسمة تقريبا هو عدد سكان محافظة الاقصر التى تعد من أقل المحافظات كثافة سكانية، ورغم ذلك فإن الظلام يزورها يوميا لساعات طويلة، «العجز فى الكهرباء معناه ان الاستهلاك أكبر من التوليد، ولما يحصل عجز ينفع اقطع عن المحافظات الكبيرة 6 أو 7 ساعات وأسيب المحافظات اللى عدد سكانها قليل منورة طول الوقت؟» التساؤل يطرحه أكثم أبوالعلا ويجيب عنه قائلا: «صحيح فى ظلم فى مسألة قطع التيار لكن فى حاجات كتير بتحكمنا».
مناطق أحمال مهمة لا يمكن قطع الكهرباء عنها، وآلية فصل التيار تراعى ذلك، «اذا كانت محافظة القاهرة تستهلك 500 ميجاوات مثلا واحتجنا أن نفصل عنها 100 ميجا، نجد أن المستشفيات والبنوك ومحطات المياه ومحطات الصرف الموجودة بالمحافظة تستهلك 300 ميجاوات، لكننا لا نستطيع أن نفصل عنها التيار، لأن أغلبها ليس بها مولدات كهرباء، وأحيانا لا تعمل المولدات أيضا مثلما حدث فى البورصة، لذلك نفصل عن المنازل التى تستهلك نسبة أقل بكثير منها، إلا أن قطع الكهرباء عنها لن يسبب كوارث، ومن هنا يشعر الناس بالظلم، فالبيوت المجاورة لمناطق الاحمال المهمة لا تنقطع عنها الكهرباء أبدا»، هكذا شرح أبوالعلا.
تعليمات الوزير كما يقول أبوالعلا تشدد على ألا يستمر انقطاع التيار الكهربائى عن المنازل أكثر من ساعتين كحد أقصى، لكن الأخير يعترف بحدوث تجاوزات فردية فى بعض الأحيان، ويؤكد «ندرس الشكاوى ونحاسب المخطئين».
عشوائيات ولصوص كهرباء
على امتداد شارع 26 يوليو بمنطقة وسط البلد سارت العروسة رشا بصحبة والدتها فى سيارتها الصغيرة، بصعوبة شديدة تجاوزت الاشغالات المنتشرة على الجانبين، فالطريق الذى كان يتسع لثلاث سيارات متجاورة أصبح لا يطيق سيارة واحدة صغيرة.
مائدة رحمن، ومحال توسعت بفعل غياب الشرطة فاحتلت الرصيف ولتثبيت الوضع فرشت بضاعتها وعلقت أنوارها فى كل جانب للتأكيد على أن المكان أصبح لها، وبين كل محل ومقهى عربيات خشبية تتساقط من عليها البضائع ويتجمع حولها الناس يفحصون ويقيسون ويفاصلون.
المنظر اللافت كان الاسلاك المتعددة التى خرجت من كل عمود إنارة فى الشارع وتفرعت باتجاه كل محل وكل عربية خشبية، وحتى المقاهى.
«هى الناس دى كلها جت هنا امتى يا ماما؟»، تساءلت رشا فى دهشة، فالعروس التى كانت تنزل باستمرار لشراء احتياجاتها من منطقة وكالة البلح فاجأها تحول الشارع المؤدى للوكالة إلى سوق شعبى تجمعت فيه كل مظاهر العشوائية.
شرطة الكهرباء والمحليات هى الجهات المسئولة عن محاسبة كل من يسرق وصلة كهربائية من أعمدة الانارة فى الشارع، والأخيرة مسئولة أيضا عن إطفاء تلك الاعمدة نهارا، «ولا شرطة الكهربا بتقوم بدورها ولا فيه محليات، ودى مشكلة كانت موجودة من زمان لكن تأثيرها دلوقتى أكبر بكتير، استهلاك زائد فى البيوت، وسرقات كهربائية فى الشوارع، وعشوائيات طلعت بعد الثورة وسرقت الكهربا، ده غير لصوص مهمات الكهرباء، من أبراج وأسلاك وغيرها» والكلام للمتحدث الرسمى باسم وزارة الكهرباء.
الشركة القابضة لكهرباء مصر كما تعرف نفسها على موقعها الاليكترونى هى إحدى شركات القطاع الخاص المملوكة للدولة، لا تمولها الحكومة ولكن تعتمد على مواردها الذاتية، لذلك تقول وكيل وزارة الكهرباء إن تلك الشركة من مصلحتها ألا ينقطع التيار الكهربائى أبدا لأن ذلك يكبدها خسائر كبيرة، بالإضافة إلى مديونيات الحكومة للشركة التى بلغت نحو 40% حتى الآن، بينما يفضل الدكتور أكثم أبوالعلا أن يصف قطاع الكهرباء بأنه ضحية «نظرية المؤامرة سياسيا واجتماعيا، فالناس تستسهل إلقاء اللوم على المسئولين لكنهم لا ينظرون ابدا إلى سلوكياتهم، والكهرباء تنهار بين استهلاك متزايد وأهالى تقف فى طريق المشروعات وعشوائيات لا تدفع مقابل للكهرباء وانفلات أمنى».
الحملات المضادة التى تبناها بعض النشطاء والتى نادت بعدم سداد فاتورة الكهرباء فى مقابل انقطاع التيار عنهم لفترات طويلة خلال شهر رمضان، اعتبرها أبوالعلا أيضا ضمن نظرية المؤامرة، لكنه قال «سنتصدى لها وسنتبع القانون، من يتأخر عن دفع الفاتورة لمدة شهرين نفسخ التعاقد معه وفى حالة رغبة فى تجديد التعاقد سنتعاقد معه بالاسعار الحالية وبعد سداد الفواتير المتأخرة».
فى طريق العودة إلى منزله بحدائق القبة مر المسئول الكبير فى إحدى الوزارات على شوارع المطرية والوايلى، توقف قليلا عند بائع خضروات علق على فرشته 15 لمبة كبيرة قدرة الواحدة منها 500 وات، وفى الداخل وضع تلفاز ومروحة، «انت جايب الكهربا دى منين؟» سأل الرجل، وأجاب البائع «هو عمود النور ده مش بتاعنا كلنا أخدت منه وصلة ربنا ينورها علينا وعليك».
الكهرباء لا تنقطع عن البائع لأنه فى الشارع المجاور لمبنى القضاء العسكرى بمدينة نصر، بينما لاح الظلام للمسئول الكبير عندما اقترب من شارع منزله لأن الساعة قاربت الثانية عشرة ليلا وهو الموعد اليومى لقطع الكهرباء عن تلك المنطقة.