لا يزال مهرجان بايروث السنوي الذي يعقد في ألمانيا احتفاء بموسيقى ريتشارد فاغنر يثير الخلاف بشأن معاداة الموسيقار الألماني الشهير للنازية، ولم يكن مهرجان هذا العام استثناء من القاعدة. البعض يرى أن مهرجان بايروث لا يصلح أن ينعم بهذا الاسم دون جدل بشأن النازية، وكان الجدل هذا العام أكثر سخونة.
تزين الجميع وارتدى أبهى ملابسه لاستقبال المهرجان. حتى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بدت في فستان لامع جذاب يميل لونه للأزرق الفاتح من وجهة نظري.
نظافة البساط الأحمر براقة. تناولنا نقانق مصنوعة من سرطان البحر، من النوع الفاخر إنتاج بافاريا.
الجميع ينتظر بشغف عرض فلاينغ داتشمان الذي سيؤدي فيه الباريتون الروسي، يفغيني نيكيتين، الدور الرئيس.
وشم ويحمل محبو المغني الروسي صورا له خلال أدائه دورا سابقا كقارع طبل في فريق روك روسي ويبدو على صدره في الصورة وشم واضح لصليب معقوف.
ها هي موسيقى فاغنر بدأت في الانطلاق. على نيكيتين الانسحاب فورا.
كان المغني قد أعرب عن أسفه لهذا الوشم وغطاه بوشم آخر أكبر لا يؤذي المشاعر ولكن بعد أن دفع وظيفته في الأوبرا ثمنا لهذا الخطأ.
كان عرض كوريا الجنوبية رائعا. فلسفة ولكن العرض الألماني الرئيسي قوبل بصيحات استهجان من الحاضرين، ربما لإغراقه في الأبعاد الفلسفية.
وفي عرض الأوبرا الرئيسي الذي كتبه فاغنر، حكم على فلاينغ دتشمان بأن يظل أبد الدهر مبحرا بين المحيطات في سفينة مخيفة.
ولا يجد رجل الأعمال مخرجا من هذه اللعنة إلا من خلال امرأة تتعهد بأن تحبه إلى الأبد.
ولكن الإنتاج الجديد لهذه القصة إلى الرياح العاصفة والأمواج العاتية. عرض يروي خبايا الرأسمالية. إذ يتنقل دتشمان ممسكا بحقيبة سفر كبيرة في أرجاء مدينة بلا روح تبرز في جنباتها لوحات إعلانية تعرض أرقاما مضيئة، ربما هي مؤشرات الأسهم.
القصة إذن تروي الآن ما يدور في خبايا الرأسمالية.
قالب حديث وتحول عمال الغزل الذين احتوت عليهم قصة فاغنر الأصلية إلى عمال بأحد المصانع مهمتهم تعبئة المراوح داخل صناديق من الورق المقوى.
لابد أن هناك مغزى ما من هذه القصة، ولكن حتى أكون أمينا معكم، لا أعلم على وجه اليقين ما المقصود!
على أية حال، حصل الموسيقيون على تحية الجماهير، بينما حازت فكرة العرض على استهجانهم.
بالنسبة لي، كان أفضل محفز للتفكير خارج دار الأوبرا، تلك الحديقة الغناء من أشجار الكستناء التي تظلل تمثالا لوجه فاغنر الصارم.
وفي هذه المساحة، نصب معرض جديد سمي "الأصوات الصامتة".
على جانبي الحديقة المشذبة ، نصبت ألواح معدنية منقوش عليها سير الموسيقيين، كلهم تقريبا من اليهود، وهو جميعا إما قتلوا في محرقة الهولوكوست أو أجبروا على الفرار.
وتروي النقوش هذه الروايات كلها.
عازف الكمان هيندريك برينز ولد في الثاني عشر من سبتمبر / أيلول عام 1881 وتوفي في معسكر أوشفيتز في التاسع والعشرين من يونيو / حزيران عام 1943.
لوسيان هورفيتز عازف التشيلو توفي في المعسكر ذاته، والتاريخ غير معروف حتى الآن.
كما تحكي الألواح سير موسيقيين نجوا من المحرقة ولكنهم فقدوا بعد فرارهم من ألمانيا.
ومن بين أولئك فريتز بوش الذي توفي في لندن في الرابع عشر من سبتمبر / أيلول عام 1951. بوش طرد بسبب معارضه لحكومة النازي. كان بوش واحدا من أعظم قائدي الأوركسترا في ألمانيا ولكنه جرد من وظيفته علانية فوق خشبة مسرح أوبرا سمبر في درزدن في عام 1933 حيث كان يدير عروضا من تأليف ريتشارد شتراوس المقرب من النازي.
ولا تستطيع عائلة فاغنر التي لا تزال تدير المهرجان التملص من هذا الماضي. ولكن حتى نكون أمناء فهم يعالجون هذا الماضي. وهذا المعرض في النهاية يقام على أرضهم.
تحدي ولا بد أن الكثير من التحدي بين الماضي والحاضر سيشهده العالم خلال الاحتفال بالمئوية الثانية لفاغنر العام القادم.
فقد كان فاغنر المؤلف لعدد من الأعمال القليلة سيئة السمعة وما زالت عروض الأوبرا الخاصة به حتى الآن تثير نقاشا حماسيا بشأن ما إذا كانت نصوصها تحوي معاداة للسامية.
وإذا كانت كذلك، ربما لن تكون مصدرا للمتعة لمن يميلون إلى الاتجاه الفكري اليميني سواء كانوا يهودا أم لا.
أعتقد أن بايروث سيجذب المزيد من الزائرين خلال العيد المئوي العام القادم. وما يزيد الأمور سخونة الاستعانة بمخرج مثير للجدل.
ما زالت الموسيقى رفيعة المستوى، هذا أمر لا مراء فيه. حيث تبقى الأوركسترا مخفية وتتوازن مع أداء المطربين، وهو إبداع ليس له مثيل في أي دار أخرى للأوبرا.
هناك الكثير مما يمكن أن يقال بشأن أصالة موسيقى فاغنر.
في بايروث تكون قريبا من الموسيقى التي تحمل عبق الأصالة وتكون نفسك مؤهلة للشعور بها.
ولكن هذه المقاعد الخشبية التي تحمل ذات المعاني الأصيلة ما زالت كما هي منذ عهد فاغنر. إنها قاسية كما هي على حالها، تماما كقسوة ملامح فاغنر في التمثال المنصوب له بالخارج.