«على عزت بيجوفيتش الرئيس السابق للبوسنة، وقائدها السياسى وزعيمها الفكرى والروحى صاحب اجتهادات مهمة فى تفسير ظاهرة الإنسان فى كل تركيبها، وهذه التركيبة، المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، هى نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية فى نظامه الفلسفى.. إنه ليس مجتهدا وحسب، وإنما هو مجاهد أيضا، فهو مفكر ورئيس دولة، يحلل الحضارة الغربية ويبين النموذج المعرفى المادى العدمى الكامن فى علومها وفى نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه». هكذا قدم المفكر الراحل عبدالوهاب المسيرى كتاب عزت بيجوفيتش «الإسلام بين الشرق والغرب» الصادر عن دار الشروق. المدهش فى كتاب بيجوفيتش، الذى ترجمه إلى العربية المترجم القدير محمد يوسف عدس، اكتشاف أن المؤلف قادر على استيعاب العالم الغربى، وكل ما يخصه من معلومات ودراسات وإحصاءات، وتصنيفها وتوظيفها، هذه المقدرة آتية؛ لأن بيجوفيتش لديه إلمام غير معتاد بالفلسفات الغربية، حسبما يرى المسيرى، وهو ليس كإلمام أساتذة الفلسفة الذين يعرضون للأفكار الفلسفية المختلفة عرضا محايدا، بل هو إلمام المتفلسف الحقيقى الذى يقف على أرضية فلسفية راسخة ويُطل على الآخر فيدرك جوهر النموذج المعرفى الذى يهيمن عليه. لكن إدراك بيجوفيتش لإنتاج الفلسفة الغربية لا يجعلنا نغفل تحيزه، وهذا طبيعى ومنطقى فى حياة البشر، لأفكار ضد أخرى، من منطلق أن هناك ظواهر لا يمكن تفسيرها بالمنطق.
قسم بيجوفيتش كتابه إلى قسمين؛ الأول وهو مقدمات: نظرات حول الدين، يتحدث فيه عن داروين ومايكل أنجلو، والأداة والعبادة، والفن والدين، والأخلاق والدين، والأخلاق بدون إله، وكذلك الثقافة والتاريخ، والدراما والطوبيا.
أما القسم الثانى فيحمل عنوان «الإسلام: الوحدة ثنائية القطب»، يتكلم فيه عن الأنبياء: موسى وعيسى ومحمد، والدين المجرد، وقبول المسيح ورفضه، والطبيعة الإسلامية للقانون، ونوعين من المعتقدات الخرافية، والطريق الثالث خارج الإسلام، فضلا على تقديمه نظرة أخيرة بعنوان «التسليم لله».
وعن الفكرة المحورية لكتاب «الإسلام بين الشرق والغرب»، أى رأيه عن أصل الإنسان، يرى المؤلف أن ثمة شيئا ما حدث للإنسان جعله لا يقنع بجانبه الطبيعى المادى الحيوانى، مخالفا بذلك التصور الداروينى المادى ودفعه إلى أن يبحث دائما عن شىء آخر غير السطح المادى الذى تدركه الأسماع والأبصار.
ولتوضيح هذه الفكرة، قال المسيرى وتساءل المؤلف: «ما هذا الشىء الذى جعل الإنسان لا يكتفى بصنع الآلات التى تحسن من مقدرته على البقاء المادى، وبدلا من ذلك بدأ فى صنع العبادات والأساطير والمعتقدات الخرافية والغريبة والرقصات والأوثان والسحر وأفكاره عن الطهارة والنجاسة والسمو واللعنة والبركة والقداسة والمحرمات والمحظورات الأخلاقية التى تشمل حياته بأسرها؟
ما الذى جعل الإنسان لا يقنع بالدلالة المباشرة للأشياء، وإنما يضيف لها دلالة متخيّلة تكون أكثر أهمية فى نظره من دلالتها الواقعية؟. فبينما يذهب الحيوان للصيد مباشرة ويوظف كل ذكائه فى اصطياد الفريسة يحيط الإنسان مثل هذا الفعل بطقوس وأحلام وصلوات.
المثير فى كتاب بيجوفيتش الذى تناوله بالقراءة العديد من المفكرين والكتاب العرب مثل فهمى هويدى وأحمد بهجت وأنيس منصور أنه يركز على الفنون والآداب فى نقده للنظرية الداروينية التى لم تكرس اهتماما كافيا للظواهر الثقافية، لسبب بسيط، حسبما يرى المسيرى: وهو أن هذه الظواهر ليست نتاج التطور، أو لأن الفن شأنه شأن الأخلاق والدين وكل الظواهر الروحية يتجاوز الرؤية المادية، ولذا لا يمكن تفسيره تفسيرا ماديا. فالعلم الذى يدور فى الإطار المادى يعطينا صورة دقيقة عن العالم، لكنها صورة خالية من الحياة ومن الروح.
بعد أن يطرح ويفند بيجوفيتش آراء الغربيين فى الخلق والمادة، يوضح أن ثنائية الوجود الإنسانى (أى ثنائية المادى والروحى) لا يمكن تفسيرها وضمان بقائها واستمرارها إلا بافتراض ثنائية أخرى، هى ثنائية الخالق والمخلوق، ثنائية تأسيسية لا يمكن ردها إلى ما هو خارجها. ومن هنا يرى عزت بيجوفيتش أن الإنسان بصفة أساسية لا يوجد إلا بفعل الخلق الإلهى. ومن ثم، إذا لم يكن هناك إله فلن يوجد إنسان، حسب رأى بيجوفيتش.
وهذه الثنائية هى وجهة النظر الثالثة التى يقدمها بيجوفيتش عن العالم، والإسلام مثل جيد لها، وهناك الرؤية المادية والاشتراكية مثل لهذه للرؤية، أما الرؤية الدينية المجردة أى اعتبار الدين تجربة فردية خالصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، والمسيحية تمثل باقتدار هذه الرؤية.