تخيلوا أن نصيب كل مصرى من الأنشطة الثقافية لا يتجاوز 17 قرشا سنويا «نعم سبعة عشر قرشا»، باعتبار أن ميزانية هيئة قصور الثقافة هى 273 مليون جنيه يبقى منها فقط 27 مليون جنيه للأنشطة والباقى يذهب إلى الإنشاءات. المعلومة السابقة سمعتها بأذنى من سعد عبدالرحمن، رئيس هيئة قصور الثقافة، خلال حضور مائدة مستديرة عنوانها «الجمعيات الأهلية ومستقبل الثقافة المصرية»، نظمتها مؤسسة سعد زغلول الأهلية للحرف التقليدية والفنون التشكيلية فى محافظة أسيوط وأدارها الفنان التشكيلى عزالدين نجيب مساء الخميس الماضى.
بعض حضور الندوة قالوا : «إذن علينا ألا نندهش عندما تفرز الثقافة الحالية و«الرخيصة» هذه النوعية المسطحة لكثير من المواطنين».
اللواء حسن خلاف، رئيس قطاع مكتب وزير الثقافة قال: إن الواقع مؤلم، وعلى الجميع أن يعرفه أولاً، وبعدها علينا مناقشة كيف نخرج من المأزق. وقال خلاف أيضا: إن العاملين فى وزارة الثقافة يصلون إلى 32 ألف موظف، والميزانية نحو 1.14 مليار جنيه، أكثر من نصفها يذهب إلى الأجور. وصدم خلاف الحاضرين حينما قال: إن هناك أزمة كبيرة قادمة فى الطريق، لأن الدعم الموجه للمجتمع المدنى يأتى من صندوق التنمية الثقافية، والأخير يعتمد على دخله من قطاع الآثار، لكن بعد فصل هذا القطاع عن الوزارة، صار الصندوق مهددا بالإفلاس، والحل هو عودة بند العشرة فى المائة، ورفع ميزانية وزارة الثقافة إلى 2.5٪.
مأساة وزارة الثقافة تشبه إلى حد كبير مأساة التليفزيون الحكومى، من حيث العدد الضخم من الموظفين.
تخيلوا فى الثقافة الجماهيرية 16 ألف موظف، منهم عشرة آلاف عمالة زائدة وجميعهم ليس من بينهم كوادر كما يقول سعد عبدالرحمن، بل إن معظمهم خريجو دبلومات فنية، فى حين أن الهيئة ينقصها متخصصون فى المكتبات والتوثيق والموسيقى. هل أدركتم ماذا فعل حسنى مبارك فى الثقافة؟! وهل أدركتم القنبلة التى تركها فاروق حسنى فى هذا القطاع بعد سنوات طويلة فى الوزارة؟!.
قبل أى شىء لابد من الاعتراف بأن هناك أزمة، وأنه من دون تزويد المواطنين بخدمات ثقافية متنوعة، فإننا نخاطر بأن نتركهم إما فريسة للتيارات المتطرفة يمينا أو يسارا أو الانضمام الطوعى لحزب الكنبة.
الدكتورة عواطف عبدالرحمن، أستاذ الصحافة والإعلام تحدثت بكلام مؤثر يتجاوز دور وزارة الثقافة إلى حال المجتمع بأكمله. وعلى سبيل المثال، فرأيها أن لدينا قصور ثقافة فخمة لكن عملها بائس، وحتى القنوات الإعلامية بالصعيد لا يشاهدها أهلها، لأنها فقيرة الإمكانات، والبعض يتعامل باعتبارها منفى، وبعض مديريها يتعاملون معها بالتليفون من القاهرة، كما أن جامعة أسيوط مثلا لم تجر دراسة ميدانية واحدة منذ 15 عاما، وبعد 34 عاما من تأسيس قسم إعلام بجامعة سوهاج، تم عقد أول مؤتمر علمى أخيرا. وجامعة أسيوط ظلت من دون كلية آداب لمدة 40 عاما، والنتيجة أن سكان الصعيد الذين يشكلون 44٪ من السكان لا يحصلون إلا على 11٪ من عائد النمو الاقتصادى. الحل كما تعتقد د. عواطف هو أن تعود مصر إلى مفهوم الثقافة الشعبية والجماهيرية، وأن نركز على دور «المثقف العضوى».
الأرقام والبيانات التى سمعتها فى هذه الليلة، أصابتنى بالوجوم، والمبانى المكيفة والمغلقة فى وزارة الثقافة أصابتنى بالإحباط.
الشىء الوحيد المبشر فى كل هذا المناخ المتشائم، هو المواهب فى كل الفنون والمجالات الإبداعية التى شاهدتها فى أسيوط.
إذن.. كيف يمكن تشجيع هذه المواهب وكسر الحلقة المفرغة من هذا التكلس الإدارى؟! الحل الوحيد أن يكون لدينا نظام لديه مشروع وطنى حقيقى.
لو تحقق ذلك، فإن هذا النظام سوف يكتشف أن الثقافة الجادة والفعلية، وتشجيع المواهب وتبنيها هو استثمار فى المستقبل.