وكأنه كان على موعد.. فقبل أسابيع قليلة من اندلاع ثورة يناير 2011 بدأ شيخ التربويين العرب الدكتور حامد عمار فى كتابة رؤيته لتحديث التعليم، مستلهما كتابات معركة الاستقلال والحرية فى القرن التاسع عشر، لا سيما رفاعة الطهطاوى، مقتبسا عنوان كتابه الشهير، ليكون عنوانا لتلك الرؤية الواقعية والاستباقية فى ثوب جديد «المرشد الأمين لتعليم البنات والبنين فى القرن الحادى والعشرين». كان عمار قد بدأ فى كتابة رؤيته تلك وسط إحباطات وأزمات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التى كانت قد وصلت إلى ذروتها فى كل المجالات، لا سيما التعليم، فتأتى ثورة يناير ويتوقف عن الكتابة ليتابع مسيرتها ويراجع ما كتبه، فيراه كما لو كان يساهم فى شق الطريق لخريطة منظومة التعليم الذى طالما آمن أنه السبيل لبناء المجتمع الديمقراطى، فإذا بالثورة تعلن أن التغيير أصبح ممكنا.
ليواصل الكتابة فى مطلع مارس بعد احتفاله بعيد ميلاده التسعين (25 فبراير 1921)، يشجعه فى ذلك إيمانه بأن الثورة لن تكتمل إلا بثورة تربوية وثقافية، وبأن المجتمع الديمقراطى لا يبنى إلا بالحرية والعدل والعلم والمصنع، وبأن التغيير الحقيقى سيبدأ بديمقراطية التعليم حسبما كان يتوق إليه الطهطاوى، رغم الفوارق الهائلة فى الزمان والاجواء التربوية والمجتمعية، بين مطلع القرن التاسع عشر ومطلع القرن الحادى والعشرين.
يركز الكتاب، الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية للنشر، على تلك العلاقة الجدلية بين التعليم والسياسة والمجتمع والثقافة والمواطنة، التى تشكل النظام التعليمى الديمقراطى، بما يخدم المرحلة الانتقالية بعد الثورة، من خلال تقديمه لعدد من المقترحات التى يمكن أن تحرك الجسم التعليمى، عبر سياسات وإجراءات وتعديلات وتغييرات قابلة للتنفيذ، لتحقيق تقدم ملحوظ فى وفاء التعليم بمطالبه المعرفية، وتأثيره الايجابى فى التنمية.
وتنطلق تلك المقترحات من تشخيص وتحليل لأوضاع التعليم الحالية، مقرونة بما يجب أن تستهدفه رسالة التعليم كمًّا ونوعا، بداية من مرحلة رياض الأطفال، حتى التعليم العالى والبحث العلمى، والمشكلات التى أدت إلى تعويق جهود الإصلاح، واحتياجات التغيير، ومخاطر استمرار تأثيرها خلال محاولات التطوير المرحلى وعلى المدى المتوسط والبعيد، وتحذيره مما يعترض التوءمة بين التعليم والثقافة من تناقضات بين التراث من ناحية والتحديث والتفكير العلمى من ناحية أخرى. ويعضد عمار رؤيته تلك بمؤشرات وبيانات إحصائية عامة للاوضاع التعليمية كمّا وكيفًا، وإمكانية تجويدها خلال السنوات الخمس المقبلة على الأقل ( 2012 2017 )، وما يمكن متابعته خلال السنوات التالية، وهو الجهد الذى شاركته فيه بشكل رئيسى الدكتورة صفاء أحمد، شريكته فى تأليف الكتاب وإعداد بياناته وتنظيم أبوابه الثمانية، وفصوله الخمسة والثلاثين.
تحرير المصريين فى 10 خطوات
يقدم شيخ التربويين حامد عمار رؤيته لتحديث تعليم ما بعد الثورة فى عشرة مجالات محددة يراها ملبية لهدف التعليم المتميز للجميع كما يراه، فى تحرير الانسان وليس استئناسه.
الأول: والذى يمكن قراءته باعتباره نقدا للذات التربوية، التى تستخدم مصطلحات ومناهج تعوق التعليم الديمقراطى، ربما عن غير قصد، أو عن تأثر بالرؤية السلطوية أو النقل من تجارب دول أخرى، من ذلك وصف المعلم بأنه «حجر الزاوية» وأن من الأجدر أن نطلق عليه «قوة محركة دافعة للجسم التعليمى»، ومنها أن التعليم يعكس أوضاع المجتمع، والأولى أن العلاقة جدلية، بما يساهم فى تعضيد دور التعليم فى الديمقراطية، ومن ذلك أيضا سيادة المنهج الوصفى الامبريقى فى معظم البحوث التربوية، بما يركز على مشاكل الواقع واقتراح الحلول، كما لو كانت منفصلة عن باقى أجزاء البنية التعليمية والمجتمعية.
الثانى: المشاركة بين الإدارة المحلية فى الأحياء والقرى وبين المدرسة بمرونة تراعى خصوصية المحيط والبيئة الثقافية، من خلال مشاركة أولياء الامور والمجتمع المدنى والمصانع والشركات، عبر صناديق للرأى فى المدارس والكليات، يشارك فيها الطلاب أيضا، وفق آلية تضمن المشاركة الحقيقية للجميع.
ومن بين الاجراءات العشرة أيضا أخذ رأى الطلاب فى المناهج والمقررات الدراسية، وإشراك أصحاب الخبرة الميدانية والعلماء فى تأليف الكتب المدرسية والجامعية وليس المتخصصين من التربويين فقط، بما يضمن المزاوجة بين التعلم وسوق العمل، وإعداد المعلمين فى كليات التربية فى أجواء التعليم الديمقراطى، واستكمال تلك الاجواء فى كل أشكال تدريبهم أثناء العمل.
ومن الإجراءات الجديرة بالنقاش حولها ما يقترحه عمار من حل لجريمة الدروس الخصوصية التى يراها تفسد أى تطوير للتعليم، من خلال وضع قسم لممارسة مهنة التعليم كقسم الأطباء تحدد فيه مسئوليات وأخلاقيات المهنة، وتكون معيارا للثقة المتبادلة بين الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين.
ويؤيد عمار استمرار تطبيق التقويم الشامل ليصل إلى درجات الثانوية العامة، بمرونة تقررها كل مدرسة، وبالتركيز على أسئلة قياس التفكير.
ولا يفوت عمار أن يركز على عدم المساس بمجانية التعليم فى كل مراحله، مطالبا الدولة بزيادة ميزانية التعليم من الموازنة السنوية، ومشجعا على المشاركة الشعبية لتمويل التعليم. هذه الرؤية الاستباقية التى يقدمها شيخ التربويين العرب حامد عمار جديرة بفتح النقاش المجتمعى حولها الآن.. وليس الغد.