موزع أنت بين حافتى الإشباع والعطش، عندما تقرأ للأديب الكبير إبراهيم أصلان. كتاباته شديدة التكثيف والتقشف اللغوى، مصوغة شعرا، تقول الأجمل عن البشر والمكان، ولوزامهما، وتترك لخيالك البقية. تلغزك عادية الحكايات، لكن تلسعك إنسانيتها، وهشاشتها التى تشبهك. عينا كاميرا مضبوطة الزاوية على الأوجاع، والابتسامات الصغيرة، والقهر الحياتى المجدول بالمكر والتحايل، والخيانات المبررة، أو غير ذلك. حكايات خافتة الصوت والإضاءة، منمنمات، ونافذة موارَبة بحذرٍ محسوب على التاريخ السرى المهمل للبشر والحوائط وأدوات الطهى والحانات والمحال التجارية والهيئات الحكومية والأرصفة والنوافذ، وعربات الخردة وغيرها. كتابة فى أضيق حدود الوصف وأوسع الدلالات.. تلك بعض ملامح كتاباته وروحه عبر كتب متغايرة التصنيف، ورحلة حياة وحكى تجاوزت ال77 عاما، أنهتها غفوة مفاجئة على كرسىٍ هزاز. وكل ما يتصل بإبراهيم أصلان حلو، قصصه، رواياته، مقالاته، ونصوصه التى يحار فى تحديدها التجنيس، وكذلك ما كتب عنه أو فى حقه، ذلك لأن الواحد لا يملك إلا أن يتطهر وهو على حافة الصلة بعم إبراهيم وتحسس نبله، الذى يشف من كل ما يتصل به.
من هذا القبيل تراك تقرأ كلاما على تباين مستويات كتابه حلوا عندما يُكتب عن أصلان، وتطربك الحكايات عنه وحوله، أو التى يلوح فيها ولو من بعيد، ومن القبيل ذاته تجد ما قيل كتابة أو شفاهة عن صاحب «مالك الحزين» إرثا مضافا، خاصة عندما القائلون هم علامات الثقافة والإبداع الأدبى مصرى وعربى.
هذا الخيط أمسك به من أوله الشاعر والباحث شعبان يوسف، لينجز فى فترةٍ وجيزة، أول مختاراتٍ تتلو رحيل الكاتب «الامبابى»، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ضمن احتفالية خاصة بتأبين وتكريم المبدع الراحل بأتيليه القاهرة، ضامة فى 160 صفحة، شهادات أدبية وإنسانية لعدة من رفقاء دربه وأصدقائه، بدءا من أديب نوبل نجيب محفوظ، مرورا بصديقه القاص سعيد الكفراوى، والناقد د. سيد البحراوى، والكاتب إبراهيم فتحى وآخرين، وفى جزءٍ آخر يقدم يوسف بعض مقالات متفرقة ومنتقاة لأصلان، كمقاله الشاهد على موقفه من وزير الثقافة الأسبق يوسف السباعى ومحاولاته تدجين الثقافة المصرية فى السبعينيات، ومقاله فى ذكرى رحيل صديقه الكاتب عبدالحكيم قاسم، وقراءته المحبة لرواية «السائرون نياما» لسعد مكاوى، فضلا عن قصة قديمة لم تضمها أعمال أصلان. وفى المنتصف من كتابات أصلان والشهادات المكتوبة عنه، ينفرد بالمساحة الأكبر حزمة إطلالاتٍ نقدية أولى ومهمة على نصف مشوار صاحب الخلوة، وأقول النصف لأنها تقف عند رواية «وردية ليل» التى أتبعها بعدة أعمال هى: عصافير النيل خلوة الغلبان حكايات من فضل الله عثمان شىء من هذا القبيل وحجرتان وصالة.
وقوفا عند هذا الجزء، الذى تضيئه أسماء بقامة المفكر الكبير محمود أمين العالم، وقيمة الناقد فاروق عبدالقادر وحضور النقاد: لطيفة الزيات، شكرى عياد، إبراهيم فتحى وخليل كلفت، يبهرك القد الذى كان عليه النقد آن ذاك، ويدهشك كم الملاحقات النقدية التى تناول بعضها قصصا منفردة ليجعلها محور دراسةٍ مطولة، كقصة «بحيرة المساء» المنشورة بمجلة «المجلة» عام 1966، فى عددها الخاص بالقصة القصيرة، التى ضاعف احتفاء الناقد شكرى عياد بها، تردد الكاتب قبيل كل نشر.
وعام 1969 نشرت مجلة «الهلال» لأصلان قصة «اللعب الصغيرة»، واختص من بين أبناء جيله، باحتفاءِ واسعِ عبر أسماء من قبيل نجيب محفوظ ويوسف إدريس، قبل أن تخصه المجلة الطليعية الرائدة (جاليرى 68) بملفِ خاص، يضم خمسة من قصصه، وثلاث دراسات لفرسان النقد الثلاثة كما يسميهم شعبان يوسف فى مقدمته الوافية هم: إدوار الخراط، غالب هلسا، وخليل كلفت.
لكن تبقى ذروة الدهشة كون كل هذا الاحتفاء الذى صدر موظف «وردية ليل» كأحد رواد ومجددى القصة القصيرة، يسبق صدور أو نشر أول مجموعة قصصية للكاتب هى «بحيرة المساء»، التى كان صدورها، بحسب يوسف: «تتويجا لكاتبٍ كانت الأوساط الأدبية كلها تحتفى به وتقدره وتعول عليه كأحد أبرز المجددين فى الكتابة الإبداعية، ويملك أدوات عبقرية الكتابة القصصية، كاتب استطاع أن يستوعب ويهضم كل التراث الإبداعى القصصى السابق، ويكشف طرائق وسبلا جديدة ونوعية فى الكتابة القصصية، بعدما اعتقد الناس أن يوسف إدريس وصل بالقصة القصيرة إلى غاياتٍ يصعب على الأجيال التالية تجاوزها».
تصدر أديب نوبل نجيب محفوظ ركن الشهادات، بكلماتٍ موجزة كشفت «حبا خاصا» لأصلان، ترجع أصوله ل«أيام قهوة ريش فى الستينيات»، قبل أن يجعلوا يوم اللقاء إجازة رسمية لها، فيتابع صاحب الثلاثية قصص أصلان من مجلة جاليرى، إذ كان: «أنتظرها وأقرأها باستمتاعٍ، وأعجبنى جدا خيالها وأسلوبها»، وعندما انقطع محفوظ عن المتابعة لظروفه الصحية، كان يؤمن أن الكاتب سيبلغ المدى المأمول لموهبة «فريدة» مثل موهبته. وتصدرت شهادة الصديق الأكثر التصاقا «سعيد الكفراوى» بوصفها الأجمل والأكثر عذوبة، تميزها المشهدية، وتحبكها تقن القص القصير، وتمتص حياتها من وجوه إنسانية حيوية كالطيب صالح، وزكريا تامر، وعبدالحكيم قاسم، وإبراهيم أصلان وسعيد الكفراوى نفسيهما:
«أوقفه أحدهم وأشار للركن البعيد حيث كان يجلس «أصلان» وبعض أصدقائه، وعندما اقترب «الطيب» وقف «أصلان» فيما اقتربت منهما كان «الطيب» قد وضع يده على كتف «أصلان» ناظرا فى عينيه هاتفا به:
أنت «إبراهيم أصلان»؟ آه. أنا أخوك «الطيب صالح». هاج «أصلان» بطريقة أولاد البلد وصاح بعلو الصوت، مادا كفه، وكأنه لن ينتهى أبدا: آه.لا لا لا.
وغابا عنا فى عناقٍ طويلٍ لا نهاية له.
وتبقى مقدمة الشاعر شعبان يوسف، الصديق والمريد، والناقد المحقق، ركنا رابعا، ملخص سيرة حياة ٍ وإبداعٍ، ويبقى كتابه الذى ضم بعضا من كل كتابات ورسائل، ومخطوطات ومنشورات، ومطويات لإبراهيم أصلان وعنه فاتحة كتاب أو كتب نتمنى أن نقرأها قريبا، تعلوها صورة «مالك الحزين».