قليل هذا النمط من المبدعين. يعطيك انطباعا باللا مبالاة، وعدم الانشغال بغير فنه، وحب الحياة، صوته السياسى، غالبا، خفيض، يستمتع بجلسة معك على العشاء، أو فى المقهى، تعلو ضحكاته، وينتشى بالحكى العام، العلاقة بينكما سوف تنجح فقط بالبعد الإنسانى، والالتقاء فى محبة تلك الحياة. هو أيضا ماهر فى الهرب عندما يحين الوقت. تقول له إنك تريد عمل حوار صحفى لجريدة كذا، فيرحب جدا، ثم يتلاشى. وأنت لا يضايقك هذا الأداء، فقط لأنك تشعر بصدقه، ومعرفتك بأن الأمر لا يتجاوز كسل الجلوس، والحديث بجدية عن القضايا الكبرى، أو تقنيات السرد مثلا.
فى النهاية، يترك نفسه لبعض الأسئلة، ويجيب إجابات مقتضبة، وعليك أنت ربطها بسياقه العام، الذى تحاول أن تستلهمه.
منذ الليلة الأولى فى الجزائر، ولقائى بالكاتب الكبير رشيد بوجدرة، استشعرت أنه من هذا النمط. فى الصباح جلس على المنصة بجوار حاشى سليمان، المشرف على الملتقى، الذى قدمه باعتباره «أهم كاتب جزائرى على قيد الحياة»، وعندما جاء دوره للكلام، قال إنه وافق على المشاركة فى تنظيم هذا الملتقى الذى يحتفى بالكاتب الشهيد مولود فرعون، إيمانا منه بأهمية الأخير، ونزل عن المنصة، بعد مداخلة قصيرة جدا.
ورشيد كاتب روائى وشاعر جزائرى ولد فى 1941 بمدينة عين البيضاء. اشتغل بالتعليم، وتقلد عدة مناصب منها، أمين عام لرابطة حقوق الإنسان، أمين عام لاتحاد الكتاب الجزائريين، وهو من قلائل الكتاب الجزائريين الذين كتبوا باللغتين الفرنسية والعربية، ومن أعماله: «الحلزون العنيد»، «الإنكار»، «القروى»، «التطليق»، و«ألف عام وعام من الحنين».
تساءلت، عن الدور الذى سوف يقدمه رشيد بوجدرة فى تنظيم المؤتمر، وهو راح يظهر فى بعض الجلسات مستمعا، ثم يختفى، ويظهر فى المساء. بعد قليل سوف أعرف أن أهمية هذا الدور، تنحصر فى تواجده وسط الضيوف، اهتماما من منظمى الملتقى بتصدير أهم كتابهم أمام الحضور، وهو بالطبع شىء مشروع.
بعد شىء من البحث، عرفت أن اسم بوجدرة ارتبط بالجدل الدائم، منذ بدأ الكتابة باللغة الفرنسية، وحقق نجاحا مدويا فى فرنسا، والشائعات التى انطلقت حول أن زوجته فرنسية الأصل هى التى كانت تكتب له، مرورا بتحوله إلى الكتابة بالعربية ونجاح مشابه، ثم بعض المشاحنات بينه وبين مجايله الراحل الطاهر وطار، وصولا إلى تصريحاته بأن الأدب الجزائرى فى هبوط حاد بسبب تلك الأجيال الجديدة التى لم تستطع كسر التابوهات التى تجاوزها هو حتى الآن.
لذا بدأت بسؤاله: من فى رأيك من الكتاب الجزائريين، استطاع كسر تابوهات الأدب، التى تتحدث عنها؟ يجيب بأريحية: فى الجزائر، لم يستطع أحد التعرض لهذه التابوهات غيرى أنا.
اندهشت من الإجابة، قلت له: ولكنْ هناك كتاب جزائريون مهمون، وأحدثوا طفرة أدبية، ونستطيع تذكر مولود فرعون ومحمد ديب وكاتب ياسين وغيرهم.
يرد صاحب «ألف وعام من الحنين»: لا، هؤلاء لم يحدثوا شروخا فى الأدب، وهذا لا يقلل منهم فى شىء، هم مؤسسو الرواية الجزائرية، وكتاب كبار، لكنهم يتعرضون للمناطق الوعرة فى الأدب، وأعنى الثالوث المعروف، الجنس والسياسة والدين، فمولود فرعون مثلا أحد أباء الرواية الجزائرية لكنه تقليدى جدا، وأدبه «حشوم، كتوم»، ثم هناك أيضا كاتب ياسين وروايته الرائعة «نجمة»، لكنه أيضا لم يتحدث بجرأة فى هذه المناطق، بل إنه كان متأثرا بفكرة الاستعمار، وأنا لا اميل إلى تسييس الكتابة بشكل مباشر، لكننى تعرضت للجنس والدين والسياسة، برواية «التطليق»، التى تبعها عدد من الكتاب العرب الكبار مثل الطيب صالح وغيره، لكن المشكلة فى الجزائر أنه لم يأت بعدى من يكسر هذا الحاجز مرة أخرى.
سألته: تقول إن كاتب ياسين كان متأثرا بفكرة الاستعمار فى أدبه، أليس هذا طبيعيا فى الظروف التى مرت بها الجزائر؟ نعم طبيعى، لكننى لم أكتب عن هذا الاستعمار، فأنا أميل إلى الرواية الاجتماعية التى تحمل أبعادا إنسانية، فكتبت عن الرجل الجزائرى الحر الذى يعانى من انطواءات ذهنية ومشاكل اجتماعية، لأننى مؤمن أن الكتابة ليست الأداة المباشرة للتعامل مع القضايا الكبرى بقدر ما هى تجسيد لواقع المجتمع، وأعرف أن الإنسان يعانى من المشاكل النفسية والاجتماعية فى العالم كله، حتى عند الغرب الذى يدعى التميز، حتى عندما كتبت رواية سياسية، كان المدخل بالنسبة لى تاريخيا، غير مباشر، كما فى رواية «معركة الزقاق».
تحدثنا كثيرا عن أزمة الهوية الجزائرية، واستشعرت أنك من الفريق الذى يدعم فكرة التعريب، وبالفعل كنت من قلائل الكتاب الجزائريين الذين كتبوا بالعربية، إذن، لماذا بدأت الكتابة بالفرنسية؟ قال: فى البداية كانت الكتابة بالفرنسية شكلا من أشكال الهروب من الرقابة، التى كانت مستتبة ومنتشرة فى العالم العربى بشكل كبير، من مشرقه إلى مغربه، وحدث أن وقعت عقدا مع دار نشر فرنسية ينص على تأليف ستة كتب هناك، لكننى كنت أتشوق للكتابة بالعربية، وأشعر أننى بحاجة إليها لعمل شكل من التوازن النفسى، وعندما عدت إلى الجزائر كانت الرقابة موجودة لا تزال موجودة بشدة، لكننى كنت حققت قدرا كبيرا من الشهرة وتمت ترجمت أعمالى إلى 24 لغة فى أربع سنوات فقط، وكتبت سيناريو فيلم «سنين الجمر» الذى فاز بالسعفة الذهبية فى كان عام 1974، وكان من الصعب ملاحقتى رقابيا، وتمكنت من الكتابة بالطريقة التى أريدها.
•لماذا إذن عدت للفرنسية مرة أخرى؟ عدت إلى الفرنسية مرة أخرى بسبب انتشار الإرهاب فى التسعينيات، وتعاقدت مرة أخرى مع دار نشر فرنسية، لكن بعد أن حققت شكلا كبيرا من التوازن وإشباع الحاجة.
• فى هذا السياق، كيف ترى أزمة الهوية، ومحاولات التعريب والانتصار على انتشار اللغة الفرنسية بين الأجيال الجديدة فى الجزائر؟. أجاب بانتشاء وتفاؤل: الأجيال الجديدة بدأت بالفعل فى التخلص من هذه المشكلة، وإذا رغبت فى التدليل على هذا بالأرقام، فسوف تجد أن مبيعات الصحف الجزائرية المكتوبة بالعربية تصل إلى 7 ملايين نسخة فى مقابل مليونى نسخة فقط من مثيلاتها المكتوبة بالفرنسية.
نهاية، فى إطار ربيع الثوارت العربية، كيف ترى المعالجات الأدبية لهذه الأحداث؟ هذا أدب «مستعجل»، بل إنه ليس أ دبا من الأساس، فكيف لى أن أصنع رواية أو مجموعة قصصية بهذه السرعة، المعالجة الفنية تحتاج إلى وقت يصل إلى سنوات حتى تهضم أمورا بهذا الحجم، ويستطيع الكاتب بلورته، وهذه الكتابات الخاصة بالثورات، التى يسميها أصحابها أدبا، أرى أنها شكل من الانتهازية، والاتجار بالموقف السياسى، وكلها فيما عدا الكتابات الصحفية أو التأريخية، ليس لها أى مستقبل.