رغم أن الموسيقار فاروق الشرنوبى له رصيد هائل من الأغانى العاطفية، إلا أننا عندما نصنفه كملحن لابد من وضعه فى قائمة المجاهدين الذين قاوموا الفساد بألحانه السياسية وقت أن كان للفساد سطوته ويده الطويلة التى كانت تطول أى إنسان». الشرنوبى هو ملحن البوم «لم الشمل» الذى وضع مبدعيه الشاعر جمال بخيت والمطرب على الحجار فى القوائم السوداء لدى النظام السابق لأنهم تجرؤوا وانتقدوا السياسة التى كانت عليها الدولة فى ذلك الوقت. الألبوم طرح بعد حرب العراق فى بداية التسعينيات وكانت أغانيه تدعو إلى لم الشمل العربى؛ لكن السلطات فى مصر رأت أنها تهدد الأمن الوطنى، وتعرض الثلاثى لمضايقات، وأصبحت باقى أغانى الألبوم مثل «عم بطاطا» تغنى فى الحفلات الخاصة بعيدا عن أعين ومسمع أمن الدولة. هذه الحالة جعلت مشروع فاروق الشرنوبى الفنى يتعرض للتعطيل المتعمد. خاصة أنه قدم تجارب أخرى مع مطربين آخرين تحت مسمى الغناء السياسى مثل مع إيمان البحر درويش ومدحت صالح ومحمد منير ومحمد الحلو وغيرهم. «هذا التجميد إن جاز التعبير جعل الشرنوبى يشعر بحالة من الاكتئاب صحيح أنه فى حواره معنا رفض هذا اللفظ لكن هذا ما أشيع عنه وعاد الشرنوبى للإسكندرية مسقط رأسه هربا من هذا الجو الفاسد. مؤخرا عاد الشرنوبى بعملين لعلى الحجار الأول «ضحكة المساجين» والثانى «مسلمين ونصارى» من كلمات عبدالرحمن الأبنودى. وهو ما يعنى أن القدر شاء أن تكون العزلة التى فرضت عليه بسبب الحجار والعودة عن طريقه».
● سألته فى البداية.. أخيرا عدت للتلحين بعد غياب؟ قال: أنا لم «أبطل» التلحين حتى أعود. لكننى طوال مشوارى وأحب أن أعمل فى مناخ صحى. وتقديم أعمال تضاف إلى رصيدى. بطبعى أسعى إلى تقديم رسالة للناس. لأننى وجدت أن كثيرين من الفنانين ماتوا دون أن يقدموا شيئا. وأنا كل ما أريده من الدنيا أن يذكر اسمى فى ذيل قائمة الفنانين الكبار الذين قدموا شيئا لوطنهم. لأن أغلب الموجودين يعملون لأنفسهم. على الجانب الآخر المنتج وهو المتحكم فيما يقدم يحب الفنان «الفوريجى» لكن الفن المحترم لا يفيده.
● هل أغنيتا «ضحكة المساجين ومسلمين ونصارى» التى عدت بهما تعكسان حالة الفساد التى عشتها وأثرت عليك كفنان طوال 30 سنة؟ الأغنيتان تناقشان الحالة الحالية. وطوال عمرى أعمل مثل هذه النوعية من الأغانى لأنى وطنى كان الهم الأكبر لى، لكن للأسف لم يلق أحد الضوء على هذه الأعمال.
● هل كنت تعتبر أعمالك شكلا من أشكال النضال؟ من الثمانينيات وأنا أعمل الأغانى بشكل محترف ومعلن وقبل ذلك كنت أقدمها بشكل نضالى. وفى المرحلتين كنت أقدم أعمالا تناقش قضايا معاصرة. مثل لم الشمل الذى قدمناه فى التسعينيات. وأعمال إيمان البحر درويش مثل مكتوبللى أغنيلك ونفسى ولمدحت صالح اتكلم.
● تعتقد أن هذه الأغانى ماتت أم تعرضت لظلم على الشاشات؟ لم أصنع أغنية تموت. لأننى لم أصنعها للحظتها. لكن تستطيع أن تقول إن الأعمال ظلمت إعلاميا.
● على المستوى الإنسانى هل ظلمت أيضا؟ أنا فنان فقير على باب الله. ولم يجبرنى أحد على الانحياز للفن الجاد. لأننى طمعان أن يتم وضع اسمى بين العظماء.
● بعض الفنانين الذين تعرضوا للاضطهاد كانوا يهربون إلى الدرما للتعبير عن أنفسهم؟ هذا صحيح وأنا منهم وعملت آخر فيلمين ليوسف شاهين وعملت فى المسرح والدراما. عملت كل ما يقدم على أنه رسالة.
● البعض يرى أنك هربت للإسكندرية بسبب الاكتئاب من حال الغناء؟ ليس هروبا لكننى لا أحب الوجود فى هذا الوسط. لأن مفرداته لا تناسبنى. لأنه وسط يعتمد على الرياء والكذب. وأنا واضح وصريح.
كما أنه ليس اكتئابا لكنه حسرة وزعل على الفن. حزين لأن وضع مصر الفنى والثقافى وصل لهذا الحال. لأن تاريخنا ومكانتنا لا يتناسبان مع ما عشناه طوال 30 سنة. الفن انهار كما انهار كل شىء فى مصر.
ولم يكن عشمنا ما وصلنا إليه. لأننا دولة ليست نفطية نحن دولة تعتمد طوال تاريخها على مبدعيها. أدب وثقافة وغناء. الآن أتحسر على مصر. لأن الكبار رحلوا ولم نستبدلهم بآخرين.
● هل هذا معناه أن تهميش أصحاب القيمة طوال ال30 سنة الماضية كان مقصودا؟ طبعا. لأن الفن الجيد يتفاعل معه الناس وبالتالى سوف يصبح هناك وعى. وبالتالى يستطيع الناس أن يفرقوا بين الحق والباطل. وهذا سوف يدفع الناس للثورة وهو ما يرفضه أى نظام ديكتاتورى.
● الفترة القادمة هل سيتغير الوضع؟ بالتاكيد. لأن الناس سوف ترفض أى شى متخلف. وأخوتنا المطربين الذين طرحوا ألبومات ورفضتها الناس سوف يحتجبون. والهابط والمسف سوف يختفى لأنه ليس من المنطق أن يقدموا فنا والناس «رفضاهم».
● البعض يرى أن كبار الفنانين استسلموا لحالة الانهيار التى كان عليها الغناء؟ لأنهم كانوا يريدون أن «ياكلوا عيش». وليس لديهم مشروع. هناك فنانون يفترض أنهم كبار لكنهم بلا مشروع أو هدف. يريدون أن يعشون بشكل جيد بغض النظر عن أى شىء.
● هل هناك أسماء قاومت؟ على الحجار أولهم. كان معزولا. رغم أنه أجمل الأصوات العربية وأفضلها على الإطلاق. وأتصور أن هناك أسماء كثيرة ومواهب حرمت نفسها من متع كثيرة ورفضوا التعامل مع الفن بمنطق أكل العيش سوف يرد لهم اعتبارهم. من زرع قيمه سوف يحصدها.
● المنتج كان أحد أسباب الانهيار الغنائى وأتصور الإذاعة والتليفزيون كذلك كيف تعود لهذه الأماكن قيمتها؟ يجب أن تقاوم كل ما تم إنتاجه عن طريق الشركات. مع تقديم غناء يليق بمصر وقيمتها الغنائية. لأننى حتى الآن مازلت أسمع من الإذاعات ما ينتج فى الشركات. رغم أن الإذاعة والتليفزيون لديها فرصة لتقديم فن مناهض لما هو هابط.
الشركة تريد أن تتاجر وعيب جدا أن نذيع هذا الهراء. وإذا كانت الإذاعة لا تستطيع الإنتاج. يمكن أن تقدم ما لديها من أغانى قديمة جيدة. وأنا شخصيا أتمنى أن يتحول كل الإعلام الحكومى والخاص لمنابر لنشر الفنون الراقية لذلك يجب وضع تشريع لهذه المهاترات.
● هل استفادت دول أخرى من انهيارنا الفنى؟ بالتأكيد أصبحنا متخلفين بالنسبة لدول أخرى مثل دول الخليج ولبنان التى استفادت من الإخفاقات التى تعرضنا لها.
● فى رأيك هل النجوم المصريون الموجودون على قمة الهرم الغنائى هم الأفضل فنيا؟ فى الغناء هناك من لا يصلحون ليكونوا «كورس». وفى التأليف نجد من لا يستطيع القراءة أو الكتابة. والملحنون لا يفهمون علاقه الكلمة باللحن. وإذا كان هؤلاء خدعونا بعض الوقت فلن يخدعونا طول الوقت. وقس على الفن أمورا أخرى مثل الجهل وانتشار المرض والبلطجة. هذا كله لم يوجد فجأة لكنه نتيجة فساد 30 سنة. وأتصور لو أننا عولجنا صح وتعلمنا بشكل جيد لما وصلنا لهذه الحالة الغنائية.
● أنت كفنان هل شعرت بعد الثورة بانتفاضة؟ كنت أشعر بإحباط. لكننى الآن منتفض فعلا. لأن الفنان يريد مناخا صحيا. وأنا لم أجد نفسى خلال وجود النظام السابق.
● كيف كان شعورك وأنت ترى إبداعك يخرج للنور؟ إذا كنت تقصد ألبوم «لم الشمل» فرغم تعرضه للظلم. لكنه انتشر بشكل رهيب كما لو أنه صنعت له حملة دعائية كبرى. والحمد لله كل من ظلم عاد لبؤرة الضوء. أغانى الشيخ إمام الآن تعرض على الفضائيات ليل نهار. الفن من الممكن أن يصادر لكن ثق تماما أن الوقت سوف يأتى لكى يعود للنور.
وأنا شخصيا لو حسبتها قبل العمل فى ألبوم «لم الشمل» بحسابات أصحاب المصالح ما كنت لحنته أبدا. لذلك دفعت الثمن أنا ورفقائى فى العمل الحجار جمال بخيت. لكننا الآن موجودون مرفوعى الرأس لأننا لم نهادن. الآن هناك عيال صغيرة لديهم سيارات أحدث موديل لأنهم جروا ولهثوا خلف الهلس. لكننى رفضت كل هذا والآن أسير على قدمى واستقل وسائل المواصلات وأسكن فى شقة إيجار وأنا سعيد. لأننى حددت من البداية ماذا أريد. وعلىّ أن أدفع الفاتورة.
● هل وصل بك الحال إلى هذا الأمر؟ نعم وأنا سعيد بهذا كما قلت لك. وأى إنسان عليه أن يختار بين أن يكون محترما لفنه ولنفسه وبين أن يصبح تاجرا. كما قلت التاريخ أو الطبيخ.