يجد البطل تونى ويبستر نفسه عالقا عند نقطة فاصلة بعيدة، كان له ثلاثة أصدقاء يعودون لأيام الدراسة، ابتعدوا بطبيعة الحال وشق كل منهم طريقه فى الحياة وفقدوا الاتصال ببعضهم، لم يستطع ويبستر، الذى تزوج ومر بتجربة طلاق صامت، أن يتخلص من ذكرى صديقته الصغيرة فيرونيكا، لم ينس يوما عطلة نهاية الأسبوع التى قضاها فى منزل أسرتها، تلك العطلة التى أثارت داخله وقتها الكثير من الضيق. اجترت داخله مشاعر لم يفهمها بعاطفته الصغيرة، مشاعر عامرة بالدونية الاجتماعية والطبقية، التى أثارتها المقارنة مع عائلة محبوبته الثرية، وزاد من حدة هذه التجربة ارتباطها بصديق الدراسة رفيع المقام أدريان فين الذى علم بانتحاره فيما بعد فعادت إليه ذكرى فيرونيكا من جديد التى تحتفظ بمذكرات فين.
هذا البطل الذى يتحكم شغفه الشديد بتفاصيل الماضى فى حاضره الفقير البائس هو بطل رواية sense of an ending «شعور بالنهاية» التى حصلت أخيرا على جائزة «مان بوكر» الرفيعة، كاتبها هو البريطانى جوليان بارنز، الذى تفوقت روايته تلك على الروايات الخمس التى وصلت لتصفيات القائمة القصيرة.
تطرح الرواية تيمة نفسية شديدة التركيب والوعورة، تتحدث عن أهمية الذكريات المبكرة فى حياة الإنسان، التى يترسب تأثيرها ويتراكم عبر سنوات العمر، رغم استحالة معرفة تأثيرها المستقبلى هذا وقت وقوعها، فالبطل فى هذه الرواية لا يعلم لماذا تلازمه منذ الصغر ذكرى العطلة التى قضاها فى منزل فيرونيكا، وسبب حنان أم فيرونيكا الشديد عليه دونا عن أصدقاء الدراسة الآخرين، حتى إنه أوصت له بعد موتها بجزء من ميراثها، ظل على مدى الرواية يبحث عن مفاتيح جديدة للدليل من كل باب تفتحه ذكرى قديمة رغم أنه أعتقد أنها ذهبت فى مهب النسيان، فتونى ويبستر، الذى وصل إلى منتصف العمر وتزوج مرة واحدة قبل أن يقتلع طلاق صامت جذور بيته، تجده متورطا فى حرب ضروس مع ما يصفها بالذاكرة الخبيثة التى تلفظ العديد من لحظات الدهشة فى حياتنا، من خلال نص محكم ودقيق لصاحب البوكر الجديد الذى نسج خيوطا محكمة بين نصوص تبدو متوازية رغم اتساع فوارق حدود الزمان بها، وتصبح الدوافع النفسية وراء الذكرى العزيزة «زقاق ضيق.. خرج من هامش الذكريات» حسب خواطر بطل الرواية.
موت رفيق العمر أدريان فين كان بمثابة الومضة التى أضاءت عالما سحيقا ظن أنه اندثر، وهو عالم الضواحى التى يقطنها أصحاب الطبقات الوسطى التى كانوا يوما ينتمون لها، يقول تونى «معظم الناس لا تتذكر الستينيات حتى يبلغوا السبعينيات» ويتابع: «هذا يعنى وبالمنطق أن معظم الناس الذين يعيشون فترة الستينيات من حياتهم ما زالوا يعيشون فعلا فى الخمسينيات»!
علق النقاد كثيرا عن صغر حجم الرواية،التى نشرها جوناثون كاب راندوم هاوس، فالرواية لا تتعدى 150 صفحة، وعلى الرغم من ذلك فإنها تضاهى رواية دسمة من مئات الصفحات، وأثنى النقد على النص المحكم الذى لم يجعل كلمة واحدة فى الرواية فى غير محلها، فكتبت «فاينانشيال تايمز» أن «لكل كلمة فى الرواية دور كبير تلعبه»، وقالت صحيفة الإندبندنت إن «كل عبارة فى هذه الرواية نسجت بذكاء بحيث لا يمكن الاستغناء عنها»، كما وصفتها ال«جارديان» بأنها رواية حول «التأمل فى العمر والذكرى والندم».
ولد جوليان بارنز فى لايسيستر البريطانية عام 1946، ويعتبر من أوفر الكتاب حظا لوصول رواياته لتصفيات القائمة القصيرة للبوكر حتى حصل عليها هذا العام، فكانت المرة الأولى التى يصل بها للقائمة القصيرة عن روايته Flaubert.sparrot «ببغاء فلوبير» عام 1984 ولكنها حصلت على جائزة جيوفيرى فابر التذكارية، وبعدها وصلت رواياتان له مرة أخرى إلى قائمة البوكر القصيرة الأولى هى England,England «إنجلترا، إنجلترا» والثانية هى روايته الأشهر « Arthur and George «آرثر وجورج».
تبلغ قيمة الجائزة التى حصل عليها بارنز 50 ألف جنيه أسترلينى، وجاء إعلان الفائز فى مأدبة عشاء بمقر مؤسسة «مان بوكر البريطانية» فى لندن بواسطة رئيسة لجنة التحكيم ستيلا ريمنجتون، وقامت هيئة الإذاعة البريطانية ببث الحفل وإعلان الفائز بالجائزة.
يعتبر بارنز هو خليفة الفائز العام الماضى هوارد جاكبسون عن كتابه The Finkler question «سؤال فينكلر» الذى حقق مبيعات تجاوزت 250 ألف نسخة فى المملكة البريطانية وحدها، ومن المتوقع أن يضاعف فوز بارنز بالبوكر مبيعات روايته الجديدة تلك ورواياته السابقة أيضا وتتيح لها هامشا أكبر من الرواج العالمى من خلال الترجمة.