بدت التعددية الثقافية السمة الأبرز في حفل افتتاح مهرجان لندن السينمائي في دورته ال 55 ، فامتدت من صالة العرض التي كان جمهورها يرطن بكل الألسن قبل عرض الفيلم الى شاشة العرض، التي افتتحت بكلمات سلوفاكية قبل أن تأخذنا في جولة امتلأت بكثافة عاطفية وعوالم حب مستحيل وخداع وضياع وخيبة وملل وأمل في عدد من مدن العالم صورها فيلم الافتتاح "360" للمخرج البرازيلي فرناندو ميريليس. لقد حرص القائمون على المهرجان على اختيار فيلم يعكس روح التعددية الثقافية الغنية التي تمثل المدينة (الميتروبوليتان) التي يحمل المهرجان اسمها، موضوعا وانتاجا، فالفيلم لمخرج برازيلي وكاتب سيناريو بريطاني وانتاج مشترك بريطاني نمساوي فرنسي برازيلي، اشتركت بي بي سي فيه الى جانب جهات انتاجية اخرى، وممثلون من بريطانيا وسلوفاكيا وروسيا وفرنسا والمانيا. ونطق بلغات انجليزية وسلوفاكية وعربية وروسية وفرنسية، كما تعددت مواقع أحداثه بين فيينا وبراتيسلافا ولندن وكولرادو وفونيكس وريو.
وفي كلمتها في حفل الافتتاح، شددت المديرة الفنية للمهرجان ساندرا هيبرون، على الحرص على تأكيد تلك التعددية الثقافية في اختيار فيلم الافتتاح في المهرجان الذي يعرض اكثر من 200 فيلم روائي ووثائقي من مختلف بلدان العالم، بينها 13 في عرضها الأول، و18 فيلما في عرضها العالمي الأول و22 فيلما في عرضها الأوروبي الأول.
وعلق المخرج البرازيلي ميريليس بطريقته الساخرة المعتادة قائلا "إنه أراد أن يفتتح الفيلم بصوت ينطق بلغة سلوفاكية مفاجئا الجمهور الذي جاء لمشاهدة فيلم يحمل في إعلاناته أسماء نجوم بريطانيين معروفين كأنتوني هوبكنز، وراتشيل فايتز، وجودي لو.
دائرة سردية
للمرة الثانية، يفتتح مهرجان لندن السينمائي فعالياته بفيلم للمخرج البرازيلي ميريليس؛ يعكس الفيلم مثالا ناجحا للتعاون المثمر بين مخرج عرف عنه ميله لاختيار أعمال أدبية في أفلامه وكاتب سيناريو ماهر (بيتر مورغان) ،الذي وصفه ميريليس في كلمته في حفل الافتتاح بأنه رافق العمل في كل لحظاته حتى آخر لحظة قطع في عملية مونتاجه، مؤكدا أنه فيلم مشترك بينهما.
في هذا الفيلم بدت لمسة مورغان- الذي اشتهر في سيناريوهات أفلام أمثال "أخر ملوك اسكتلندا" و"فروست ونيكسون" و"الملكة" و"اخرة" (هيرافتر، الذي اخرجه كلينت ايستوود عام 2010) - واضحة في تحقيق هذا البناء السردي المعقد الذي يتابع مصائر ومسالك بشرية متقاطعة في أماكن مختلفة وسط فيض من المشاعر الإنسانية والعواطف الملتبسة.
يذكرنا هذا الشكل السردي بالحكايات المتواصلة في الف ليلة وليلة، حيث تولد الحكاية حكاية اخرى ضمن حكاية إطارية، فيصبح الفيلم مجموعة قصص أو حكايات صغيرة تنتظم في خيط سردي واحد. ونجح مورغان وميريليس في تحقيق انتقالات سردية وبصرية سلسلة للربط بين حكاياتهم المتعددة لتبدو اقرب الى ركض بريد المسافات الطويلة تسلم الحكاية مبرر السرد للحكاية اللاحقة.
وعكس اختيار العنوان "360" (في الاشارة الى شكل الدائرة المكونة من 360 درجة، وهو تنويع أيضا على عنوان المسرحية التي استلهم الفيلم منها والتي تشير الى حلقة رقص دائرية)، النزوع نحو تقديم سرد (دائري) تتوزع حكاياته في عشرة مثلثات وسط دائرة مثل شكل بياني. ولجأ المخرج الى اختيار بؤر سردية في مناطق التماس بينها، فقام بتقسيم الشاشة الى عدة اقسام ليعرض ما تقوم به شخصياته المختلفة في لحظة واحدة، وقد كررها بشكل ناجح بصريا وسرديا على الرغم من خطورة مثل هذه الحلول في السينما، اذا كان يختار لحظة ذات دلالة رمزية ودرامية ليكسر سرد حكاية معينة وينقلنا الى الحكايات الأخرى ثم يعود الى حكايته الأصلية، على سبيل المثال لا الحصر، مع لقطة إطفاء الضوء قبل النوم التي مر بها على كل شخصياته في أوضاعهم المختلفة.
المخرج فرناندو ميريليس
لقد ذهب مورغان في شكل تقديم حبكة متعددة الى اقصاه، وهو شكل سردي سبق أن قدمه العديد من كتاب السيناريو ولعل اقرب مثال الى البال اعمال السينارست المكسيكي غييرمو ارياغا مع المخرج المكسيكي اليخاندرو غوانزاليس ايناريتو، حيث يجمعا ثلاث او اربع قصص متداخلة تدور في اماكن مختلفة.
كما مثل العمل استلهاما مميزا لعمل مسرحي صعب يعود الى مطلع القرن العشرين للكاتب الالماني ارثر شنيتزلر " La Round " في اشارة الى حلقة الرقص الدائرية (عندما يرقص الراقصون دائرة كما هي الحال في الرقصات الفلكلورية التقليدية) والذي قدم ربطا ناجحا بين الخيارات والقيم الجنسية والايديولوجيات الطبقية التي تقف خلفها في حكايات حب وخداع لشخصيات باريسية تتنقل في علاقاتها العاطفية بين شريك وأخر.
استلهمت هذه المسرحية في أعمال سينمائية عديدة نحو 13 مرة بإشارة مباشرة اليها او دون اشارة، وكان اخرها فيلم ميريليس، ومن اشهرها فيلمان فرنسيان حملا نفس عنوان المسرحية لمخرجين شهيرين هما ماكس اوفيلس (اوفيل باللفظ الفرنسي) عام 1950 وروجيه فاديم عام 1964.
توزعت المسرحية في عشرة مشاهد، تبدأ في مشهد المومس والجندي وتنهي بالمومس والكونت، بينما نجح الفيلم في عكس الشكل الدائري في العودة في مشهد النهاية الى مشهد البداية نفسه وهو المومس والمصور الفوتغرافي ولكن هذه المرة مع مومس جديدة وممثلة مختلفة. وجهة النظر
وسط تلك المسالك السردية المتشعبة، نجح المخرج البرازيلي ميريليس في تقديم حلول بصرية ناجحة وانتقالات بصرية سلسلة، في مشاهد محملة بكثافة عاطفية عالية. ونجح اختياره لممثليه في تجسيد ذلك العالم المعقد من المشاعر المتناقضة والخداع والرغبات العاطفية المحمومة.
لقد حرص دائما، عبر عدد من اللقطات القريبة الناجحة، على ان يعكس براعة ممثليه وتوزعهم بين تلك العوالم المتناقضة والأدوار المخادعة التي يعيشونها، كما هي الحال مع مشهد الممثل جودي لو في دور رجل الأعمال البريطاني وهو يترك رسالة حميمة لزوجته على هاتفها ويحادث ابنته عن الكلاب قبل ثوان من لقائه بمومس.
او الممثل القدير انتوني هوبكنز عندما يتحدث عن تجربته في جلسة العلاج النفسي الجماعي او اظهاره لمشاعره الابوية نحو الفتاة البرازيلية (لورا) في رحلة الطيران، او في رسالة الويب كام التي تتركها لورا لحبيبها والتي ينهيها بصورة ثابتة لها وهي تهم بالمغادرة (ولكنها لم تغادر مكانها نهائيا.
سرد ميريليس ينطلق دائما من وجهة نظر الشخصية ورؤيتها وهو مايوضحه بقوله "عندما تصنع فيلما، كل شيء يتعلق بوجهة النظر، للرؤية . فعندما تتحدث شخصيتان في حوار، تُعرض (تُكشف)العواطف عبر الطريقة التي ينظران فيها الى بعضهما البعض بعيونهما. وبشكل خاص في عمليات القطع والمونتاج فانك عادة ما تقطع عندما يبتعد شخص ما في نظرته. ان الفيلم في مجمله عبارة عن وجهة نظر".
وكانت شهرة ميريليس العالمية وحصاده للعديد من الجوائز السينمائية قد بدأت مع فيلم الشهير "مدينة الله" المأخوذ أيضا عن رواية سيرة للكاتب البرازيلي باولو لينس، والتي خاض تحديا كبيرا لتقديمها اذ تضم نحو 350 شخصية، وقد حرص على اختيار صبيان عاديين لم يسبق لهم التمثيل من الأحياء الفقيرة المحيطة بريو دي جانيرو لأداء أدوارها.
كما قدم عملا أدبيا آخر هو رواية "العمى" الشهيرة للأديب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل جوزيه ساراماجو، والتي تتحدث عن مقاومة ومعاناة أهالي مدينة يتفشى فيها وباء يصيبهم بالعمى.