تمر اقتصادات الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية بحالة تباطؤ فى مستوى النمو الاقتصادى مع تزايد المخاوف من دخول هذه الدول دورة جديدة من الكساد. مما يزيد الأمور تعقيدا أيضا، وجود عجز كبير فى موازنات هذه الدول وتضخم فى حجم ديونها السيادية، كذلك هناك بداية لظهور مشاكل فى البنوك الكبيرة بهذه الدول نتيجة القروض التى قدمتها للحكومات الأوروبية فى إسبانيا وإيطاليا واليونان والبرتغال. دخلت هذه الدول نفقا مظلما أبعاده الثلاثة تؤثر فى بعضها البعض:
أ عجز فى الموازنة.
ب ديون سيادية تزيد على حجم الناتج القومى.
ج تخفيض فى الجدارة الائتمانية للبنوك ينتج عنه انخفاض فى أسعار أسهمها وصعوبة متزايدة فى حصولها على التمويل الذى تحتاجه (خاصة بالدولار) لتمويل أصولها مما دفع البنوك المركزية فى كل من الولاياتالمتحدة وسويسرا واليابان والبنك المركزى الأوروبى لتقديم تسهيلات دولارية لمدة ثلاثة أشهر لهذه البنوك.
إن حالة الاقتصاد اليونانى والبنوك اليونانية تجسد هذه المشكلة بوضوح، فقد قامت البنوك اليونانية بشراء السندات الحكومية اليونانية اعتقادا منها، وكما هو متعارف عليه، أن هذه السندات تمثل أقل المخاطر مقارنة بالقروض التى تقدمها للقطاع الخاص نتيجة تزايد حجم الدين السيادى للحكومة اليونانية ووصوله إلى 160% من حجم الناتج القومى أصبحت هذه القروض تمثل عبئا على حقوق المساهمين بهذه البنوك مما دفعها للبحث عن مصادر جديدة لزيادة رءوس أموالها للاستمرار فى النشاط أو الاندماج مع بعضها لترشيد النفقات وتحقيق اقتصادات تشغيل أفضل. أصبحت هذه القروض التى قدمت للحكومة اليونانية مشكلة أيضا للبنوك الفرنسية والألمانية، كما تواجه البنوك الإيطالية نفس المشكلة فيما يخص السندات الحكومية الإيطالية التى تحوزها.
ماذا يعنى هذا لنا فى مصر؟
تناول كثيرون فى الفترة الأخيرة اعتماد الحكومة المصرية على البنوك فى تغطية العجز المتزايد فى موازنة الدولة والتى يتوقع أن يصل إلى 12% من حجم الناتج القومى العام القادم، كما وصل حجم الدين العام نحو 100% من حجم الناتج القومى. وفى هذا الصدد يمكن طرح الملاحظات التالية:
أولا: أصبحت القروض التى تقدمها البنوك للحكومة فى صورة أذون وسندات الخزانة تمثل نحو 47% من إجمالى الودائع وهى نسبة مرتفعة لا تتيح موارد كافية لتمويل القطاع الخاص الإنتاجى. ترتكز البنوك فى قرارها لإقراض الحكومة أن هذه القروض هى أفضل المخاطر الائتمانية المتاحة، علما بأن الدولة تعتمد على إصدار أذون وسندات خزانة جديدة لتمويل الفوائد والأقساط التى تستحق.
يمكن أن تسير هذه العملية التمويلية ذات المنفعة المتبادلة لمدة ما فى المستقبل ولكن استمرار العجز وتمويله بهذه الطريقة فى النهاية ينذر بتدهور أكثر فى المؤشرات الكلية للاقتصاد الوطنى مصحوبا بزيادة كبيرة فى معدل التضخم وتآكل سعر العملة والذى بدوره سيؤدى إلى تخفيض كبير فى الجدارة الائتمانية للدولة وبالتبعية تخفيض التصنيف الائتمانى للبنوك التى تحتفظ بالسندات.
كما أنه فى هذا السيناريو تقل التدفقات المالية المباشرة وغير المباشرة وتتأثر التسهيلات الائتمانية التى تحصل عليها البنوك من مراسليها.
ثانيا: ينادى البعض بالاعتماد على التمويل الخارجى لسد عجز الموازنة. إن السير فى هذا الاتجاه يمثل خطرا أكبر، حيث إنه يزيد من حجم الدين العام ولكن يفضل فى الظروف التى تمر بها مصر الآن الاعتماد على المنح والمساعدات المالية التى لا ترد أو التمويل الممنوح من الهيئات الدولية بشروط ميسرة سواء فى سعر الفائدة أو مدى القرض.
ثالثا: إن الحل الأمثل لتغطية العجز المتزايد فى الموازنة بالإضافة إلى عمل الإصلاحات الهيكلية فى الضرائب والدعم هو اجتذاب استثمارات مباشرة التى بطبيعتها ذات أجل طويل. ولتحقيق هذا يجب:
1 السيطرة على الانفلات الأمنى بالبلاد الذى يعتبر عاملا طاردا لأى استثمارات أجنبية أو محلية.
2 وقف الاحتجاجات الفئوية، على الرغم من مشروعيتها، التى تمثل عائقا فى عودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها، كما أنها تعطى انطباعا لمن ينظرون إلينا من الخارج أن المجتمع غير مستقر.
3 التوقف عن إعادة النظر وإلغاء عمليات الخصخصة التى تمت فى الماضى بأثر رجعى. إن هذا يبعد مجتمع الاستثمار عن مصر حيث يخشى المستثمرون فى هذه الحالة أن تغير الحكومة قراراتها بعد أن يكونوا قد وضعوا قرارات الاستثمار موضع التنفيذ. يمكن أن تكون التسويات مع مساهمى الشركات التى تم خصخصتها بديلا عن اللجوء للمحاكمة.
فى ضوء الملاحظات السابقة تصبح الأولوية الآن للقائمين على الأمر فى البلاد هى: استرجاع الأمن واستقرار التشريعات الاقتصادية حتى يمكن جذب الاستثمارات المباشرة التى تدفع عجلة الاقتصاد وتوفر فرص العمل التى يحتاجها الشباب. إن الاستمرار فى تمويل العجز بزيادة الدين العام قنبلة موقوتة يجب أن نعمل جميعا على تفاديها.