داخل قاعة محكمة «أولد بايلى»، وقف السير «إدوارد مارشال هول» ( 1858 1926)، أعظم محام فى زمانه، ليدافع عن «مارجريت فهمى» التى أطلقت النار على زوجها الأمير المصرى «على بك فهمى» فأردته قتيلا.
الحادث عادى يقع، ولا يزال منذ تأسيس الخليقة، إلا أن دفاع مارشال جعل قصة القتل وحكاية الجريمة، محط أنظار العالم كله.
هذا العالم الذى كان يتصارع شرقه مع غربه، بسبب هذه الجريمة. تولد الصراع، حيث لم يجد دفاع القاتلة وسيلة لإنقاذها من المقصلة إلا بوضع الحضارة العربية الإسلامية فى قفص الاتهام، باعتبارها حضارة بدائية ومتخلفة، يعانى المنتمون إليها من عقدة نقص دفعت «على فهمى» للشعور بالدونية، تجاه زوجته التى تنتمى للحضارة الأوروبية المتقدمة والمتفوقة، فعاملها كما لو كانت جارية، واضطرها، دفاعا عن نفسها، لإطلاق الرصاص عليه.
حكم المحكمة جاء صادما للجميع.
كيف حدث هذا؟...
يخبرنا الكاتب الكبير صلاح عيسى فى كتابه الجديد «مأساة مدام فهمى حكايات من دفتر الوطن»، حاكيا بتفاصيل هذا الحادث المروع الذى كان ذروة قصة حب فاجعة، جمعت بين غانية فرنسية، ومليونير مصرى شاب يصغرها بعشر سنوات. فى الكتاب، الصادر عن دار الشروق، قصة حال مصر الثقافى والسياسى فى هذه الفترة الخصبة، التى نطلق عليها بحسرة «زمن الفن الجميل». مسرحيات وأفلام، كانت المأساة موضوعا لها. وكواليس تستمتع بها، فتقرأ أسماء عبدالسلام النابلسى، مارى كوينى، ومنير فهمى أبطال فيلم «وخز الضمير»، أحد ثلاثة أفلام أنتجت فى عام واحد عن الأمر نفسه. وكذلك أبطال الصف الأول فى ذلك الوقت: يوسف وهبى، أمينة رزق، حسين رياض، ومحمود المليجى.
كما نتلمس فى الكتاب، المكتوب بأصابع من ذهب، وبلمسة من فصيلة الموهوبين، تاريخ الناس فى مصر، وحكاياتهم وقلقهم على منجزات ثورة 1919. تقرأ وأنت فى حيرة من أمرك، أليس ما يقوله عيسى عن فترة ما بعد ثورة 1919، هو الكلام نفسه الذى نقوله الآن بعد ثورة 25 يناير. القلق نفسه، والاضطراب ذاته: «حوالى خمس سنوات كانت قد مرت على انتهاء الحرب العالمية الأولى، ومرت أربع سنوات على ثورة 19...وكل شىء يبدو باعثا على القلق والخوف، لأن كل شىء كان لا يزال فى كفة الميزان، انتهت تضحيات سنوات الحرب العالمية الأولى، وسنوات الثورة بتصريح 28 فبراير 1922 الهزيل، الذى أعطى مصر استقلالا ذاتيا شكليا مقيدا بتحفظات أربعة ليس هو الحماية البريطانية التى ثار المصريون عليها، ولكنه ليس كذلك الاستقلال التام الذى اختار شهداء الثورة الموت الزؤام حتى يتحقق».
ويكمل عيسى: «حتى الدستور الذى كان المكسب الوحيد لسنوات الحرب المعذبة، وسنوات الثورة الباهرة أعلن فى 19 أبريل 1923 بعد أن تعرض للمسخ، فصدر بديباجة تجعله منحة من الملك لا قرارا من الشعب، وتسللت إليه نصوص تجعل الملك شريكا للأمة فى السلطة، فلم تعد وحدها مصدر السلطات».
أليس هذا ما نقول شبيها به حاليا. ولكن بشىء من الاختلاف البسيط؟!
ولنأخذ من أفواه المؤرخين الحكمة. فالتاريخ يحمل نارا تحرق كل جاهل به، وينير الطريق أمام كل باحث عن الحقيقة، ويقدم الحل لكل من يتعثر فى طريقه للتغيير. ولعل الفعل الحسن الآن أمامنا كلنا فى هذه الفترة المضطربة أن نقرأ التاريخ، ولكن بأقلام أمثال صلاح عيسى، الذى لا يعيبه شىء فى كتابته، وإن كان لدىّ تحفظ إذا جاز ذلك حول مدى ملاءمة إطلاق وصف المأساة لمدام مارجريت، فى عنوان كتابه، فالمأساة لم تكن لها، بل كانت لمصر ولحضارة الشرق. هنا، بالطبع أتحدث عن «كتب» صلاح عيسى، الكاتب الكبير، دون التطرق إلى مواقفه السياسية وانتماءاته المهنية، فهذا أمر لا يخصنا فى عرض هذا الكتاب المهم، أو لكى لا يتهمنا بأننا «ثعالب نفسد الكروم».
ماذا تحمل المأساة؟
رصاصات فى العاصفة، خضراء الدمن الأوروباوية، كشكش مصر الوحيد، رحلة صيد شرقية فى غابة أوروبية، فى مغارة «على بابا»، أسلحة العشق المحظورة، لعبة الحب الأخيرة، قبلات العشاق.. وصراع الحضارات، شرق وغرب.. محافظون ومجددون، مسرحيات قضائية وغير قضائية...
عبر هذه الفصول العشرة «يفصص» عيسى المأساة، التى لا تنتهى عند مجرد جريمة قتل زوجة لزوجها، وإنما تمتد إلى مطالبتها، بكل وقاحة، الحصول على ميراث زوجها. ومن أجل هذا الميراث، نقرأ حكايات، نعم حكايات، لا تصلح إلا فى الدراما، فلا يمكن تصديقها فى الواقع. لكنها حدثت. مدام فهمى امتدت جرأتها، التى لم تتوقف، إلى تصميمها إشهار إسلامها، هى وابنتها «ريموندا»، حيث لا يرث غير المسلم أموال المسلم، وزادت أنها اشتركت فى اختلاق أنها حامل بمشاركة محامين من الشرق للحصول على الميراث، ومن قبله حصولها على حكم مؤخر الصداق. وهنا زادت المأساة لهيبا، عندما اكتشف المصريون أن هناك من العرب ساعد هذه المرأة الأوروبية فى الحصول على ميراث شرقى لا تستحقه.
الغريب فى أمر مدام فهمى، أنه فى 13 يناير 1971 وبعد 48 سنة من ظهورها على مسرح الحياة الاجتماعية نشرت جريدة «الفيجارو» الفرنسية، كما ختم عيسى كتابه، داخل مربع صغير فى ذيل عمود الوفيات إعلانا يقول: «طلب إلينا أن نعلن أن البرنسيس فهمى بك قد رحلت عن الدنيا فى 2 يناير 1971، وأن مراسم الجنازة وإجراء الدفن تمت فى خصوصية كاملة فى مدافن ضاحية «نيولى» إحدى الضواحى الراقية للعاصمة الفرنسية».
«وهكذا حرصت مارجريت ميلر حتى آخر لحظة فى حياتها على أن تنسب نفسها للزوج الذى قتلته، وعلى أن تحتفظ باللقب الذى انتحله لنفسه وانتحلته لنفسها؛ لأنها وهذا هو الغريب لم تتزوج بعده، ربما لأنها كما قالت فى مذكراتها لم تشعر بالسعادة إلا حين كان يحبها».
بعد قراءة مجمل كتب عيسى، ينشط سؤال فى الذهن: لماذا يهتم عيسى بمثل هذه القضايا، وقراءة ملفات القضايا؟ وليس بعيدا أن يكتب كتابا عن محاكمة القرن، محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك ونظامه الفاسد. وجدت إجابة فى مقال كتبه:
«شغفت بقراءة المحاكمات السياسية منذ مطلع صباى، وبمتابعتها، متهما أو متضامنا مع متهمين آخرين، فى مطلع شبابى، وهويت فيما بعد جمع ملفات تحقيقات النيابة فى القضايا الكبرى، جنائية وسياسية وفكرية.. وكان ذلك أحد أهم أسباب حرصى على متابعة محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك، على شاشة التليفزيون، وبحثى عن وسيلة أضم بها ملفات تحقيقات النيابة فيها، إلى عشرات من ملفات القضايا التى جمعتها على مدى العمر، واتخذت منها مصدرا لبعض كتبى، وآخرها كتاب «مأساة مدام فهمى» ، لا لكى أمارس مشاعر الانتقام والتشفى وغيرهما من المشاعر البدائية الفجة التى تحيط بهذه القضية، والتى لا صلة لها بالسياسة أو بالثورة، ولكن لكى أبحث بين أوراقها عن الثغرات القانونية والإجرائية والممارسات السياسية والأعراف الاجتماعية التى ينفذ منها الفساد والاستبداد، ليكون سدها هو أهم ملامح النظام البديل الذى تقيمه الثورة، على أنقاض النظام الذى سقط».