1 الحكاية أكبر من مدام فهمي بالطبع.. صلاح عيسي لا يحكي فقط حكاية المدام الفرنسية التي تزوجت أمير الشباب، مدعي النسب بالأسرة الملكية، ثم قتلته بعد ستة أشهر، بثلاثة رصاصات. هي ببساطة حكاية شعبية في مرحلة ما بعد ثورة شعب، هكذا تتشابه حالة الكتاب مع حالة الواقع. 2 عند نهاية نفق أبو الفدا بالزمالك، ومنزل كوبري 15 مايو بشارع 26 يوليو يقع مركز الجزيرة للفنون الآن، الذي كان سابقاً قصر عائشة فهمي، هنا قدمت لسنوات عروضاً للفن التشكيلي، الفيديو آرت، ولوحات تصوير، لكن صلاح عيسي يقدم عرضاً آخر بالمكان نفسه »مأساة مدام فهمي.. حكايات من دفتر الوطن« الكتاب الصادر مؤخراً عن دار الشروق. هنا جلس يوسف وهبي بقاعة المكتب بالقصر.. فكر بسيرة صهره الراحل وكتب مسرحية بعنوان »أولاد الذوات« تحولت فيما بعد لأول فيلم مصري ناطق بالعنوان نفسه (1931). المسرحية -والفيلم كذلك- كانا حول قصة علي فهمي، صاحب القصر والمأساة أيضاً..وصلاح عيسي، ليس إلا كاتبها الأخير، لأن حكاية ولدت منها أفلام، مسرحيات، مقالات، ومسرحية فرنسية كذلك. 3 القصر سمي بقصر الرخام الوردي. أسسه صاحبه علي فهمي. ابن الأعيان، الذي نال لقب امبراطوار ليل القاهرة، وقتل عام 1923 هكذا يدخل صلاح عيسي التاريخ، كالعادة، بروح الحكاء. المعلومات هنا أخف من ثقل الوثائق، هي مجرد إشارات تُثبت الحكاية، لتخرج من رحلة القراءة إما بحكاية جيدة أو بشك رهيب. لكن المؤلف لا يكتفي بالمعلومات كأدوات تثبيت، بل يصنع دروباً أخري موازية للحكاية، حينما وصل خبر الحادثة إلي مصر، وضع عيسي طيفاً يغازل القارئ. الطيف أقرب لخيط جانبي يشوش رؤية الحادث في الكتاب، فحينما تلقي موظف مصري بشركة ماركوني للتلغراف النبأ، وكان ذلك يوم 10 يوليو 1923، قال: »مرجريت جوتيه« قتلت البرنس.. (جوتيه هي بطلة غادة الكاميليا)، هكذا برشاقة تنحرف الحكاية في منعطف درامي جديد، ولكنها لا تنتصر للمرأة هذه المرة. 4 يرسم عيسي تاريخ علاقات »مرجريت« كأنه يكتب تاريخ غانية، سيدة لاهية لا وجود للمشاعر أو العاطفة كمبررات لأي علاقة أو زيجة، هي فقط تبحث عن السلطة والمال، كما لو أنها شخصية شريرة جداً فحسب، بلا أبعاد إنسانية. رغم التحولات وتعرضها للخداع و تقلب حياتها بين مطبات مؤلمة، لم يسمح المؤلف بالتعاطف معها.. هكذا كانت أطياف عيسي حول الحكاية تحمل روح الإدانة الأخلاقية للسيدة/ القاتلة. كانت الدنيا قاسية علي مرجريت، وكذلك كان الشعب المصري..ومعه صلاح عيسي. حيث لم تعامل السيدة -داخل الكتاب- بوصفها متهمة، وإنما أشير لها دائما بتهتك أخلاقها .. هكذا يستشهد عيسي بحديث نبوي عن »خضراء الدمن« أي المرأة الحسنة في المنبت السوء. 5 في هذا الزمن حدث تحولاً في المزاج المصري حينما لاحظ الفنان نجيب الريحاني أن شخصية »كشكش بيه« عمدة كفر البلاص الباحث عن متع القاهرة الليلية، لم تعد مقبولة من الجمهور. الفن كان لابد أن يتيغير تزامناً مع الثورة. كان العنوان الرئيسي للرفض أن الفلاح الذي يسخر منه الريحاني ربما يكون من أبطال الثورة الشعبية، لكن الموضوع أن المزاج المصري يبحث عن فن يعبر أكثر عن الواقع، يعبر عن حال المواطن المصري. كان هناك هوساً للبحث عن ميلودراما وطنية ربما، لا عن كوميديا اجتماعية..لهذا تنافس الريحاني مع يوسف وهبي علي تقديم الميلودراما..هكذا كانت الحادثة طوق نجاة للفن. ولدت الميلودراما في الواقع بفندق سافوي، وانتقلت للفن في نصوص مصرية، حيث حولها اللبناني انطوان يزبك إلي مسرحية »الذبائح« قدمت علي مسرح فرقة رمسيس(1925)، التي كانت أول ميلودراما مصرية حسب علي الراعي.. هذه هي الآثار الخفيفة للواقع علي الفن، لكن انعكاس الحكاية علي المجتمع المصري كان بمثابة زلازالاً هزّ مصر كلها. 6 لا تبدو الشخصيات التاريخية هنا عادية. الجميع هنا استثنائي، والحكاية كذلك حسب رواية صلاح عيسي. محام الدفاع لم يكن يدافع فقط عن موكلته، كان شخصية درامية، وصانع للدراما كذلك. رسم عيسي شخصية الداهية، المحامي الحذق، الذي يحرك كل شئ كما يريد. اختطف مرجريت من الإعدام بالكرسي الكهربائي بعدما التهم عقول المحلفين بدهائه! حينما وقف السير مارشال هول أمام المحلفين البريطانين معيدا تجسيد جريمة القتل، لم يرسمها كما وقعت. أبرز السير معالم الدهشة والذهول علي وجهه وهو يمسك المسدس، وسقط من يده، (وهو ما لم يقع في الجريمة).. هكذا صنع من الجريمة حكاية أخري، حيث يوطف القدر مرجريت في قتل غير متعمد. انطلق الرصاص حينما كانت مرجريت تظن إنها »تهوش« فقط، هكذا كان هجوم المحام الكبير ضد الشرق الذي تنتمي إليه الضحية، ضد كل الشرقيين لا الضحية فقط. انتهت مرافعة الدفاع ببراءة مرجريت، حسب قرار المحلفين، لكن مرافعة أخري بدأت من طرف الضحية .. الشرق. الدفاع لم يكن نقاشاً حول القضية، وملابستها، وإنما حكاية تروي لماذا إنزلق المجتمع المصري بأكمله في فخ صنعه محام بريطاني يحمل لقب فارس؟ 7 المجتمع المصري في لحظة دفاع، ليست بعيدة عن لحظتنا الحالية، الروح مصرية تدافع عن نفسها بجنون النفس الجريحة. مارشال هول كان عدو الشعب رقم واحد.. هكذا انتقمت الشخصية المصرية الجريحة. الجميع دخل الحرب، حيث كتب بديع خيري أزجالاً في مرجريت. لم يكن خيري الأول، بل سبقه الكثير من شعراء وزجالي مصر، لكن أغلبهم وقع في أزمة الحيرة بين جمال القاتلة وجريمتها، لكن موقف النسويات المصريات كان أكثر صرامة، وغرابة كذلك، حيث دعت بعضهم شباب مصر ألا »يتزوجوا الأجنبيات«! كان المجتمع المصري في تلك المرحلة حائراً بين الغرب والشرق، الآراء كلها تبدو غريبة، والجميع يدفع عن نفسه اتهاماً ظالماً، لم يوجه له، كان الجميع يلعب دور القتيل علي فهمي، دون أن يقصد أحد ذلك. الشعراء الساخرون يقولون أن العيب ليس في الرجل الشرقي، والنسويات يبادرن إذا تزوجتم مننا »سنستر عيبكم«.. المجتمع، كان ولا يزال، في حالة انعدام للوزن، وصلاح عيسي يحمل الحكاية المثقلة بالمفارقات والتناقضات، والمتضخمة، لتصبح الجناية العادية حرباً ضد الغرب. كما لو أن عدم فهم الحادث في حالته الطبيعية هو ما يكشفه الكتاب.. الفهم الخاطئ للحادث، أو تعمد ذلك هو ما نعيشه الآن، وهو ما يؤكد أن زمن مدام فهمي كان به عيباً آخر غير رصاصات المدام، وأن زمننا به المشكلة نفسها أيضاً.