استشراف مستقبل الاقتصاد المصرى بعد الثورة، كان محور حوارنا مع صاحب الاسم الشهير فى العلوم السياسية، مصطفى كامل السيد، والذى حذر قبل الثورة من «النتائج الكارثية لموت السياسة فى مصر»، ويشعر حاليا، مدير مركز شركاء التنمية، بالقلق من عدم قدرة التيارات السياسية المتنافسة على السلطة بعد خلع حسنى مبارك، على تشكيل نظام اقتصادى يحقق النهضة الاجتماعية التى يتطلع إليها الشعب بعد ثورة يناير. ● إلى أى مدى ستسهم ثورة يناير فى إحداث تحولات اجتماعية بالبلاد.. خاصة أنك قلت فى مقال لك بعد تنحى مبارك إن العلاقة الفجة بين الثروة والسلطة انتهت؟ أعتقد أن تلك العلاقة انتهت فعلا لأسباب عدة منها عدم وجود رجال أعمال فى مواقع قيادية بالأحزاب الجديدة الصاعدة، وهناك درجة أكبر من الشفافية فى الحياة السياسية تصعب نشوء نفوذ كبير لرجال الأعمال، خاصة أن القسم الفاسد فى مجتمع الأعمال واجه ضربات قوية، سواء فى مجال الأراضى التى ساعدتهم على تكوين ثرواتهم من بيعها وليس من أنشطة إنتاجية، او فى مجال الاحتكار خاصة بعد اتجاه الحكومة لتغليظ العقوبات فى قانون مكافحة الاحتكار، وهذه العوامل تفتح الباب لحدوث تطور صحى للرأسمالية المصرية، والى جانب ذلك هناك دور مهم للغاية لصعود الحركة العمالية، لذا فالتغييرات التى أراها فى المجتمع المصرى تغييرات هيكلية وليست أمورا مؤقتة تقتصر على المرحلة الحالية فقط.
● هل تعتقد أن الطبقة العاملة قادرة على الاحتفاظ بقدرتها الظاهرة حاليا على المطالبة بحقوقها الاجتماعية حتى بعد انتخاب النظام الجديد؟ نعم، فتمتع العمال بالحق فى إقامة تنظيمات مستقلة سيحررهم من سيطرة الدولة، علاوة على أن وعى المواطنين أصبح يمثل عقبة هائلة أمام أى محاولة لتحجيم مثل هذه الحركات، هذا بالإضافة إلى أن الأحزاب ستحرص على الوقوف بجانب العمال لكسب أصواتهم، وأعتقد أن عددا من رجال الأعمال أدركوا هذا التحول الكبير الذى حدث فى الطبقة العاملة بعد الثورة، لذا تعاملوا مع الاحتجاجات العمالية بمرونة حرصا على العملية الإنتاجية، وذلك بعكس الإدارة الحكومية التى تفتقر بطبيعتها للمرونة، علاوة على تقييدها بنقص الموارد المالية حاليا.
● لكن مجتمع الأعمال مارس ضغوطا لتعطيل بعض التعديلات فى السياسات المالية فى الفترة الماضية، ألا يعنى ذلك أن نفوذهم لا يزال قويا؟ انتهاء العلاقة الفجة بين الثروة والسلطة لا يعنى أن رجال الأعمال فقدوا تأثيرهم على القرارات الاقتصادية، فهم لديهم المال، والمعرفة بدقائق العملية الاقتصادية والعلاقات القوية مع بعض المسئولين والقدرة على التنظيم فلديهم جمعيات وغرف عدة، وهى كلها عوامل تمنحهم القوة للتأثير فى القرار الأقتصادى، ولكنهم لن يكونوا أصحاب التأثير الوحيد، فبجانبهم قوى اجتماعية صاعدة هى الطبقة العاملة والنقابات المهنية، وكنت أتمنى بروز دور أكبر لاتحادات الفلاحين، ولكن من الواضح أنهم لا يزالون يفتقدون إلى بعض الخبرات التنظيمية التى تمكنهم من إيجاد كيانات تمثل تفوقهم العددى.
● أشرت فى مقالاتك إلى التجربة الكورية والتى حققت نهضة اقتصادية ولكن تحت نظام استبدادى، ما رأيك فيمن يرون أن هذا النمط مناسب لمصر؟ نموذج «المستبد العادل» تجاوزه التاريخ، والتجربة الكورية نشأت فى ظروف خاصة، حيث مكنتها الحرب الباردة وقتها من تلقى مساعدات هائلة من الولاياتالمتحدة، علاوة على أن تمركز القوات الأمريكية فى جنوب شرق آسيا مكنها من تصدير سلع كالملابس والأحذية والتى اعتمدت عليها فى بداية تجربتها التصنيعية.
● هناك من يتطلعون إلى تكرار تجربة لولا دا سيلفا فى البرازيل، ما رأيك؟ أنا أميل إلى النموذج البرازيلى ولكن لا اتصور أن يتكرر فى مصر، فظروف الطبقة العاملة التى اعتمد عليها الرئيس البرازيلى دا سيلفا فى تجربته السياسية لا تتوافر فى مصر، فالطبقة العاملة هناك ضخمة لأنها تعتمد على النهضة الصناعية التى حدثت فى النصف الثانى من الستينيات وبداية السبعينيات، ودا سيلفا جنى ثمار تلك النهضة. أما مصر فبالرغم من الدور المتصاعد للطبقة العاملة فإن الاقتصاد يسيطر عليه نشاط الخدمات وليس الصناعة، والكثير من العمال لا يقبلون بسهولة وضعهم الطبقى ويريدون امتلاك مشروعات صغيرة، علاوة على أنه فى البرازيل هناك تراث من الفكر الليبرالى واليسارى سمح بظهور هذه الطبقة يضاف إليه الدور الذى قامت به المؤسسة الدينية هناك والتى كان بها جناح يرفض الديكتاتورية ويؤمن بالعدالة الاجتماعية، وكان له تأثيره على الطبقة العاملة.
● ما النموذج الاقتصادى الأنسب لمصر اذن؟ نحن فى حاجة إلى التوسع فى الأنشطة الإنتاجية واستغلال جميع مواردنا، فبالنظر إلى أحوال الاقتصاد المصرى، سنجد أن الصناعة التحويلية ومعها صناعة المنتجات البترولية لا تمثل إلا ما يزيد قليلا على عشر إجمالى الاستثمار السنوى، ولا تتلقى الزراعة سوى 2.9%، بينما يذهب أكثر من نصف الاستثمارات (بنسبة 56%) إلى قطاعات الخدمات الإنتاجية والاجتماعية، وهذا الخلل لن يتم علاجه إلا من خلال رفع مستوى التعليم ومهارات العمالة، وإعادة هيكلة سياستنا المالية والاقتصادية.
● إلى أى مدى ستؤثر الأزمة المالية المتفاقمة فى الدول الغربية الكبرى على مستقبلنا الاقتصادى؟ الواقع أننى لا أرى مخرجا سهلا للاقتصاد العالمى من تلك الأزمة إلا بانتهاج ما يعرف بالسياسات «الكينزية» الجديدة لكن يبدو أنها لا تجد تأييدا كافيا فى الولاياتالمتحدة، لذا أتوقع أن تستمر الأزمة الحالية لفترة طويلة، وانعكاس ذلك على مصر ربما يكون بزيادة الوعى بعدم الاستسلام بسهولة للأفكار الفجة عن مزايا الاقتصاد الحر، مما يصعب فكرة إعادة إنتاج نموذج جمال مبارك الاقتصادى.