«يقف الديكتاتور دائما على نقيض الفنان» قالها عن حق الكاتب الليبى هشام مطر. يكتب المبدع، يغنى، أو يرسم، ليبنى عالما بحجم أحلامه، بينما يأتى الديكتاتور بمطرقته يهدم الحلم، ويكمم الأفواه فلا يسمع سوى رجع صوته وحده. تماما مثلما فعل نظام بشار الأسد الغاشم حين قابل لوحات الفنان السورى الأشهر على فرزات الكاريكاتورية بأدوات القمع تنهال على الفنان ضربا وتجهز على أنامله المبدعة التى طالما عكست فى مرآة رسومه فساد النظام وحقيقة الديكتاتور، مثل اللوحة التى كانت سببا فى غضب المارد والتى تصور معمر القذافى فى مشهد الهروب الكبير يشق بسيارته الصحراء وقد تطايرت قبعته العسكرية من شدة السرعة، بينما يقف الرئيس السورى على الطريق ممسكا بحقيبته وملوحا بيده بحركة «الأتوستوب» الشهيرة كما لو كان يستحلفه أن يأخذه معه. وأمام قوة وذكاء العمل الفنى ظهرت هشاشة نظام كلما افلتت السلطة من يده، ارتعب وازداد شراسة وضراوة، أصاب «شبيحة» النظام الذى اختطفوا فرزات عينه اليسرى وذراعه وانهالوا على يديه الاثنين تكسيرا يبلغونه الرسالة: «حتى تعرف كيف تتطاول على أسيادك». لم يكتف النظام السورى بالمذابح التى قادها ضد شعبه وتجاوزت الألفى شهيد، لكنه التف مؤخرا بكثافة نحو الساحة الثقافية ساعيا للقضاء على مصدر الثورة وروحها المؤججة، مثله فى ذلك مثل الديكتاتوريات البالية، فى عصور الظلام فى القرون الوسطى حين كان يحرق الكاتب والمفكر ويتهم بالسحر والزندقة، أما الملحن والشاعر فيتم استئصال حنجرته بعد قتله حتى لا تغرد من جديد وسط المظاهرات الحاشدة، كما حدث الشهر الماضى مع الملحن السورى إبراهيم قاشوش ورثاه فرزات فى إحدى رسومه مصورا الدماء التى تسيل منه وقد تحولت إلى موسيقى. أما ممارسات مصاصى الدماء من سلخ اليدين أو قطع الأصابع فهى حيل وحشية قديمة لجأت إليها جماعات الهجانة الصهيونية، ولجأت إليها الأنظمة الاستبدادية لاستعراض مدى قوتها فى قمع مصدر أى صوت مخالف. حيث تستدعى حادثة فرزات حوادث أخرى لا تقل عبثية، حين انقض نظام الأسد الأب على الصحفى اللبنانى الأشهر سليم اللوزى انتقاده الاحتلال السورى للبنان وقام باغتياله وسلخ يده، أو حين قامت ديكتاتورية بينوشيه فى شيلى بقطع أصابع الشاعر والمغنى وعازف الجيتار فكتور جار، وحين استمر السجناء فى ترديد أغنيته، أنشودة الوحدة الشعبية، قامت الميليشيات بتصفيته جسديا. يدل هذا فى المقام الأول ليس فقط على غباء تلك الأنظمة كما قال على فرزات نفسه من فراش المرض التى ساعدت بوحشيتها أن تجعل قضيته أسطورة يتعاطف معها العالم ويتضامن معها، ولكن يدل أيضا على القيمة العالية التى يحتلها فنان فى حجم على فرزات ومدى تأثير وانتشار أعماله فى مشارق الأرض ومغاربها، لأن ببساطة اسم فرزات وحده أصبح مرادفا للحرية. هل يستطيع النظام أن يمحو رسوم وصلت إلى 15 ألف لوحة؟ وإن حرقها كما فعلت محاكم التفتيش قديما، ماذا يمكنه أن يفعل بموقعه الإلكترونى الشخصى الذى يزداد عليه عدد الزوار، والصحف الإلكترونية التى تتبارى فى الحصول على رسومه الكاريكاتورية الفذة بعد أن تم إغلاق جريدته «الدومرى» فى 2003 ؟ هل يفتح العقول ويمحو ما علق بها مثلما رسم فرزات نفسه فى أحد كاريكاتوراته رجل الأمن بالمطار الذى لا يكتفى بتفتيش حقائب المواطن، ولكن يفتح رأسه ليفتش بداخله عما علق بها من أفكار. رسومات لكسر حاجز الخوف فلم تكن هذه هى المرة الأولى التى تناول فيها فرزات شخص الرئيس السورى فى رسومه، رغم أن القانون يمنع تماما رسم الرئيس إلا أنه لم يدخر وسعا فى التعبير عن احتجاجاته على الحكم البربرى. وبعد أن كان فى معظم أعماله يركز على الصورة الرمزية التى تصرخ بالحقيقة رغم شعريتها، فقد قطع فرزات عهدا على نفسه، قبل شهور من اندلاع الاحتجاجات فى الأراضى السورية، أن تكون مهمته هى «كسر حاجز الخوف عند الناس». فبدأ بإتباع طريقة لا مواربة فيها، بأن يصور مثلا الرئيس بشار وقد لفظه الكرسى بعد أن شاخ وخرجت أمعائه وسوسته الداخلية، وتعلق هو فى جانب منه متشبثا به حتى النهاية، أو صورة كرسى الحكم المزود بمدفعية ثقيلة موجهة على الشعب تماما كما فعل الرؤساء فى ربيع الثورات العربية. وهى الصور التى أعادت نشرها جريدة لوموند الفرنسية تحية وتضامنا مع فرزات. أما مرحلة ما قبل الثورة فتزخر بالآلاف من الرسوم التى تتهكم من الديكتاتورية أيا كان صاحبها وأيا كان مكانها وزمانها، فيرسم الكرسى وقد صار سجنا لصاحبه يرى العالم من خلال فتحاته الضيقة فتتضاءل الرؤية ويتلاشى الخيال، ويصور الديكتاتور فى الزى العسكرى تملؤه الأوسمة والنياشين، فيتحسس جميع الزعماء العرب «مسدساتهم»، فيغضب صدام حسين ويسعى لتخريب معرض فرزات فى فرنسا، ويمنع القذافى دخول مجلته فى الأراضى الليبية، الخ. وكانت بعض هذه الرسوم قد عرضت بنقابة الصحفيين فى 2008 بمعرض «مصابيح مضيئة» نظمه المجلس الثقافى البريطانى، وكم كان توحش الأنظمة القمعية جليا من خلال شخصية الديكتاتور الذى تسيل دموعه أمام مشهد رومانسى على شاشة التليفزيون، بينما يترك المواطن معلقا بالقرب منه وقد قطع أطرافه. حين يصبح الكاريكاتير مصباحا مضيئا وحين سأل فرزات عن سبب تحول أسلوبه وكشف القناع عن الرمز فى أعماله، أجاب فرزات فى أحد أحاديثه الصحفية على موقعه الشخصى: «أحيانا تشعر أنك ريشة فى الهواء وليس لك وزن، إن لم تفعل شيئا ما لتعبر من خلاله، ضمن كل هذه الأحداث والدماء لم يعد ينفع استخدام الرموز، فهذا بحد ذاته يحتاج إلى تأمل، واليوم لم يعد هناك مساحة لدى المتلقى ليتأمل، لأننا نرى شيئا جديدا فى كل لحظة، لذلك ابتعدت عن الحالة الرمزية فى الكاريكاتير عامة وليس فقط فى رسم الشخصيات، فلا بد اليوم من رسم كاريكاتور مستعد للنزول إلى الشارع مع الناس وبكامل عتاده، ولا بد من الإشارة إلى الأشياء بمسمياتها ودون أى مواربة». ولم يتوان فرزات عن فضح دعاوى الإصلاح فى عدد من رسومه والسياسة التى تبناها النظام فى بداية الألفية ووعود التحديث والديمقراطية، حيث كرس فرزات العديد منها للتهكم من تكميم الأفواه واستحالة ممارسة حرية التعبير، فهناك دائما هذا الخنجر الذى يرسمه وهو يطعن حرية التعبير مجسدة فى شخص المثقف، أو السخرية من دعاوى الحوار بينما لا يوجد على حد قوله سوى قوى الأمن مما يستحيل معها إقامة أية حوار، فصور فى أحد رسومه رجل الأمن ينهال ضربا على المواطن ليدعوه لتبنى الحوار! كما كانت نفس دعاوى الإصلاح الشكلية السبب وراء غلق جريدة الدومرى التى أسسها فى عام 2000 حين حملت فى آخر أعدادها عنوان «الإيمان بالاصلاح». واختار فرزات اسم الدومرى ليعيد إلى الأذهان دور هذه الشخصية الشعبية التى كانت تضىء المصابيح فى شوارع سوريا قديما. واليوم تتزايد حملات التضامن مع على فرزات ويتبارى رسامو الكاريكاتير العالميين فى إهداء رسومهم إلى الفنان السورى الذى يصر على استكمال رسالته كما صرح بعد إصابته، مثل رسم فنان جريدة لوباييس الإسبانية، والفرنسى لونيس والإيطالى مورو بيانى، ويتجمع مئات الشباب أسفل منزله بعد تعرضه للاعتداء وقد أضاءوا الشموع تبتلا إلى السماء لتعيد لهم «الدومرى» الثائر، أو لعلها شموعا لرد الجميل لمن أضاء لهم طريق الثورة. ففى جهالة الديكتاتور وإظلامه لم يدرك أنه إن كسر يد ستخرج له مئات الأصابع من كل صوب ولون. أما الفنان الشاعر عبدالرحمن الأبنودى فيهدى لفرزات ولإبراهيم قاشوش قصيدة تقطر وجعا وعذوبة. يقول الأبنودى لعلى فرزات فى «عيون الوطن»: «ارسمها ع الجدران وع البيبان/ وانقشها على ورق الشجر فى الريف/ اروى عطش كل اللى بات عطشان/ وادفع تمن ما اخترت تبقى شريف!!».