هل خطر ببالك أن تزور الشريط الحدودى الفاصل بين مصر وإسرائيل.. الذى لا تبدأ الحكومة فى تذكره أو حتى وسائل الإعلام إلا مع مقتل جنود أو أفراد مصريين برصاص القناصة الإسرائيليين، الذى بات طقسا معتادا لسكان هذه المنطقة، وحكام المحروسة مهما اختلفت مسمياتهم؟ هل سبق لك سماع اسم قرى مثل «الدهنية» و«شبانة» و«البرث» و«وداى العمر»، التى دفعت وتدفع من حياة أبنائها وحريتهم الثمن الأفدح للتنسيق بين نظام مبارك والصهاينة على الجانب الآخر للحدود؟ نعتقد أن الكثير منا لا يعرف شيئا عن هذه القرى وأبنائها الذين ظلوا يعانون من العدو المرابض على الحدود فى الخارج.. ومن نظام قمعى ذراعه الغليظة تسمى «أمن الدولة» فى الداخل.. الناس فى هذه القرى بسطاء جدا.. فقراء جدا.. مصريون جدا.. توجعهم تهم الخيانة والعمالة للعدو الذى لا يجد حرجا فى اصطياد أبنائهم برصاصاته الغادرة.. واختطافهم فى أحيان أخرى. «الشروق» زارت قرى الشريط الحدودى بين مصر وإسرائيل.. لتنقل لك معاناة أهالينا الذين يحملون أرواحهم على كرتونة «بضائع» مهربة على أحد جانبى الحدود، بعد أن نسيتهم القاهرة.. وبعد أن باتوا يشكون فى تبعيتهم لوادى النيل. بمجرد مرورك بخط الحدود جنوبى رفح بالقرب من معبر «كرم أبوسالم» تصلك رسالة على هاتفك المحمول تقول «أهلا بكم فى إسرائيل.. أرض الزيتون».. لتختفى شبكات التليفون المحمول المصرية، ومعها مصر أيضا عن هذه المناطق العزيزة على قلب الوطن، مصر الغائبة عن «نن عينها» تجدها موجودة فى غصن زيتون جف بعد طول انتظار لقطرات من نيلها الطاهر إليه.. فتاة صغيرة تسرح قطيعا صغيرا من الأغنام والماعز.. شيخ سبعينى ما زال يعيش على ذكرياته مع مصر التى خدمها طيلة أيام حرب الاستنزاف.. حيث كان العين التى تبصر بها المخابرات المصرية على العدو الذى ظل يحتل سيناء. الدهنية.. الحياة على مرمى رصاص الإسرائيليين على بعد أمتارا من نهاية الشرط الحدودى بين مصر ورفح.. وبداية الشريط الحدودى مع إسرائيل، تقع قرية الدهنية.. أولى القرى الحدودية مع الكيان الصهيونى، وأكثر القرى الحدودية معاناة من الانتهاكات الإسرائيلية للحدود لتسجل فى عام 2008 فقط أربعة قتلى من المدنيين برصاص القوات الإسرائيلية المنتشرة على خط الحدود.. الصورة الأمنية فى القرية يمكن تلخيصها بما قاله نايف سويلم أحد سكان القرية بأنها الحياة على مرمى رصاص الإسرائيليين وظلم الحكومة المصرية. يقطن سويلم فى منزل يبعد عن سور الحدود 500 متر، ويملك ما حوله من أراض انتزعتها منه الحكومة المصرية عنوة لتنفيذ مخطط بناء الجدار العازل الذى يبدأ من قرية الدهنية حتى الحدود مع رفح. ولم تكتف الحكومة باقتلاع الزرع من الأرض لتقديمها لخدمة إسرائيل فى بناء الجدار العازل فقط، على حد قول سويلم لكنها اتهمتنا بالعمالة لإسرائيل وبالغت فى تقديم أبشع الصور الذهنية بأننا مهربون المخدرات وسبب كل المشاكل فى مصر، فإذا حدث أى حادث اتهم فيه أبناء سيناء. رعى الأغنام هى المهنة الأكثر انتشارا بين سكان القرية والتى تعمل بها النساء، فضلا عن زراعات التين الشوكى والبطيخ الصحراوى، والذى تنتج سيدات القرية من بذوره اللب. يوميا تمشى أم عمر على عربة «كارو» لتبيع بذر البطيخ على معبر رفح فى طرق غير ممهدة يحدها زراعات التين الشوكى، بعد أن اقتلعت الحكومة كل الزراعات بأرضها لبناء الجدار العازل. لا تنقطع دعوات أم عمر على النظام السابق بسبب خطاياه ضد أهل قرية الدهنية بالتحديد التى تعتبر من الأكثر تضررا من جفاء الحكومة عليهم على حد تعبيرها. قرية شبانة.. أزمة الثقة مع شيوخ القبائل هى أكبر القرى الحدودية مساحة وسكانا.. لكن المشهد العام بها لا يوحى بمعنى حقيقى للقرية التى نعتاد عليه.. فهى عشش من الخوص على مسافات متباعدة، ومسجد صغير يحتاج لترميم منذ عشرات السنين، وزراعات على مساحات صغيرة جف معظمها فى الموسم الصيفى. يقول سعيد عتيق، أحد شباب ائتلاف ثوار سيناء إن الهجمة الأمنية التى قادتها وزارة الداخلية عقب تفجيرات طابا كانت بمثابة تصفية أو إبادة جماعية على حد تعبيره لسكان القرى الحدودية ووسط سيناء، والتى كشفت النقاب عن تعاون مبارك مع الكيان الصهيونى ضد أبناء سيناء. «نحن هنا ندفع ضريبة سلام وهمى بين دولتين لا تقدران ثمن السلام.. ليضعنا النظام فى موقف كبش الفداء للمساومة فى أى صفقة مع الكيان الصهيوني»، هكذا يعبر سعيد عن الصورة العامة التى يعيش فيها سكان المناطق الحدودية التى تناساها النظام السابق بمزاعم تتحدث عن «عمالة بعض سكانها لليهود». «أنا شاب لا اعترف بأى شيخ قبيلة صنعته الحكومة، وكان أداة لأمن الدولة، ونعلن جميعا الثورة عليهم وعدم تمثيلهم لنا» تلك كانت صيحة شباب القبائل الذى لخصها سعيد فى رسالته للمجلس العسكرى ضد شيوخ القبائل. ويواصل سعيد قوله: «أنا عندى هنا أطفال تمشى يوميا نحو 10 كيلو مترات للوصول إلى المدرسة الابتدائية فى أوضاع تعليمية متدهورة، يتواجد فى المدرسة بأكملها عدد لا يتجاوز الثلاثة مدرسين لكل المراحل الدراسة ولكل المواد التعليمية». ويتحدث سعيد عن والده الذى بنى قرية شبانة عقب خروجه من المعتقل الإسرائيلى بتهمة الجاسوسية حتى توفى عام 1985، ليؤسس الفكر الاشتراكى بعد أن جمع أبناء القبيلة التى تعيش فى هذه المنطقة وقسم الأراضى لكل عائلة 400 متر، لتكون قرية تعاونية، كما تبرع بأرض لبناء مبانى الخدمات الحكومية والتعليمية والاجتماعية، لكنها لم تبن حتى الآن، ليظل وضع القرية منذ 1982 دون تطوير أو إحياء حتى الآن. «نحن هنا نتمتع باللون الأصفر وإسرائيل تعيش فى الأخضر» هكذا يصف عيد سويلم، مزارع بقرية شبانة تدهور الأوضاع الزراعية رغم توافر المياه الجوفية وخصوبة التربة التى يؤكد أنها أخصب أراضى مصر وأكثرها إنتاجية، لافتا عدم حصولهم على أى مساعدة حكومية سواء للإمداد بالتقاوى أو المساعدة على حفر الآبار، بل تعقيد الإجراءات والمبالغة فى رسوم إصدار التراخيص لحفر آبار الزراعة. قرية البرث.. الحياة على الأمطار على طريق موازٍ لخط الحدود مع الأراضى الفلسطينية المحتلة، وعلى بعد 10 كيلو من قرية شبانة، تقع تجمعات متفرقة من البدو يعيشون فى مكان سموه قرية «البرث». سوق أسبوعى للسلع الغذائية التى تأتى من العريش.. ووحدة صحية متهالكة.. ومدرسة للمرحلة الابتدائية والإعدادية بطاقة 3 مدرسين لكل المراحل التعليمية هى كل مكونات القرية التى يعيش فيها نحو 1500 مواطن من بدو الترابين. الوضع لن يختلف كثيرا فى «البرث» التى تبعد 12 كيلو عن قرية نظيرتها «شبانة» من خلال طريق العجرة الذى يفصل بين قبيلتى الترابية والسواركة، المشاكل واحدة وصوت المطالب لم ينقطع طيلة السنوات الماضية، لكن تزيد الأوضاع الإنسانية صعوبة لتسجل القرية النسبة الأكبر بين سكانها من الأسرى بالسجون الإسرائيلية، والذين تم اعتقالهم على الحدود بسبب نقل بضائع إلى إسرائيل. يقول مصطفى الأطرش، أحد شباب قرية البرث، إنه لا يمكن تبرير التهريب إلى إسرائيل لكن الأوضاع الإنسانية الصعبة والبطالة المتفشية بين أبناء القرى الحدودية تكفى لتكون مبررا للبحث عن أى وسيلة للحياة حتى لو كانت هذه الوسيلة هى الطريق إلى الموت أو الاعتقال، فالشاب يحمل روحه وكرتونة البضائع على كتفه ويعبر بها خط الحدود مقابل 150 جنيها، يحصل عليها بعد تسليم البضاعة للجانب الإسرائيلى، وهو يعى تماما خطورة هذا العمل الذى قد تكون نهايته الاعتقال فى السجون الإسرائيلية أو الرجوع إلى قريته جثة هامدة برصاص القناصة الإسرائيليين المنتشرين على خط الحدود. الأطرش يؤكد أن أبناء سيناء شعروا عقب حرب أكتوبر 1973 وطيلة عهد نظام مبارك بأن عودة سيناء إلى مصر الوطن الأم كان لهم بمثابة العودة إلى زوجة الأب التى مارست ضدهم كل سبل التعنت والتهميش، رغم أنهم خط الدفاع الأول عنها، لتكون سياسات الحكومة على حد تعبيره سياسات حماية للكيان الصهيونى. مضيفا «قد لا تعلم الحكومة أن أراضينا جزء من نطاق عملها.. فتناست أن تصل خدماتها إلى هنا.. فانقطعت الكهرباء والمياه». فى مسافات متباعدة تتجمع مياه الأمطار سنويا فى «هرابات» صنعها الأهالى من الأسمنت لتجميع مياه الأمطار لتكون مصدر الحياة للشرب والزراعة طوال العام، يقول عيسى سويلم، أحد سكان القرية، «لا أحد يعتنى بجودة المياه أو نقائها.. المهم أنها متوافرة ولو بكميات صغيرة». سويلم يؤكد تواطؤ أجهزة شركات المياه التى لا تصل خدماتها للقرية، قائلا إن تقديم طلب للحصول على عربة مياه يظل قيد الانتظار لأكثر من 15 يوما إلا إذا كان الطلب «مستعجل» وبرسوم أعلى تصل إلى 150 جنيها للسيارة حتى تأتى وتفرغ محتواها فى «الهرابة» خزان المياه ليكفى أهل القرية نحو 10 أيام. مشهد شجر الزيتون الجاف والميت هو أبرز ما يميز القرية، ليرسم صورة حزينة بين الأراضى الصفراء التى تختفى فيها المنازل بمعناها المتعارف عليه لتتركز فى «عشة» من الخوص تعيش على نار الفحم ومياه الأمطار. وفى عشة صغيرة على مساحة 20 مترا، أمام إحدى «هرابات» المياه، يعيش الحاج سليم حسن من قبيلة الترابين، مع أسرة مكونة من 6 أفراد. «الحياة عندنا تعبانة شوية» بلهجة هادئة وابتسامة تحاول أن ترتسم على وجهه المتجعد يتحدث الحاج عيد عن متاعب الحياة على بعد 3 كم من الحدود مع الأرض المحتلة، وعلى بعد أميال من مقر الحكومة المصرية التى لا تعرف وجود الحاج عيد على أرض مصرية من عدمه. يقول الحاج حسن «بنعيش على العتمة هنا.. حريمنا بيطبخ على الحطب وبنسقى الغنم من مياه المطر»، يشكى عيد من تعقيد الإجراءات الحكومية للحصول على ترخيص حفر بير للشرب والزراعة قد تصل رسومه إلى 60 ألف جنيه، متسائلا من أين يحصل أى مواطن من سكان القرى الحدودية على هذا المبلغ فى ظل عدم وجود مهنة أو صنعة. تحصل أسرة الحاج عيد على 10 كيلو «طحين» دقيق شهريا من مديرية التضامن الاجتماعى وهو إجمالى ما يحصل عليه من خدمات حكومية، يعيش عليها فقط بعد خبزها بمياه الأمطار، فضلا عن كميات قليلة من الشعير الذى يزرعه أوقات المطر ويخزنه طوال العام. تحذير دائم من الحاج حسن إلى أبنائه الخمسة بعدم الاقتراب من الحدود، حتى لا ينضموا لطابور الأسرى أو ضحايا الحدود، قائلا» راضيين بالحياة على القليل ويكفينا مشاكلنا مع قوات الأمن المصرية ولسنا بحاجة للاشتباك مع إسرائيل». «وادى العمر» مثلث الرعب بمجرد الخروج من قرية البرث إلى وادى العمر.. تكون قد أنهيت رحلة فى مثلث الرعب الذى روجت له حكومة النظام السابق، بأنه البقعة الأخطر فى سيناء ومقر تجارة المخدرات والسلاح والجماعات الدينية المتطرفة. على طريق وادى الأزارق الذى يمتد من قرية «البرث» إلى داخل إسرائيل، تقع قرية «وادى العمر» القرية الحدودية الأخطر فى رأى أمن الدولة والتى شهدت مداهمات أمنية ضد البدو فرض خلالها حظر التجوال ودهم العديد من المنازل. الوضع الإنسانى لا يختلف كثيرا عن باقى القرى الحدودية التى تعيش على مرمى الرصاص الإسرائيلى، ومطرقة الحكومة المصرية التى فرضت المئات من الأحكام الغيابية على سكان القرية. الأحكام الغيابية هى المشكلة الأكثر حدة بين أهالى وادى العمر.. فما بين 10 و25 عاما تأتى أحكام القضاء المصرى بحق شباب لم يفعلوا شيئا لم يتجاوز معظمهم ال19 عاما. يقول أحد المحكوم عليهم غيابا الذى رفض ذكر اسمه أن هذه الأحكام كانت بمثابة انتقام من ضباط أمن الدولة ضدنا دون أى وجهة حق، قائلا: «أتحدى أى ضابط أن يثبت عليا تهمة تكون سبب فى الحكم عليا ب15 سنة سجن».