ملتقى ويوم الخريجين بكلية التربية بجامعة الفيوم لعام 2025    297 لجنة بمحافظة الفيوم في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    أسعار الفضة اليوم الإثنين 21 يوليو تواصِل الصعود.. والأونصة تتخطى 38 دولارًا    جريمة حرب..المجاعة فى غزة مصممة من الحكومة الأمريكية وقوات الاحتلال بهدف التطهير العرقي ومواصلة الإبادة    الأمم المتحدة: نطالب بالتحقيق في استهداف إسرائيل منتظري المساعدات بقطاع غزة    حسن شحاته يخضع لجراحة طارئة بعد التعرض لأزمة صحية    حالة الطقس في الكويت اليوم الإثنين 21 يوليو    آمال ماهر تتصدر تريند يوتيوب ب3 أغنيات بعد طرح ألبومها الجديد    اليوم .. وزير الصحة يدشن مبادرة الرعاية الصحية المنزلية "رعايتك فى بيتك" خلال زيارته لمحافظة الإسماعيلية    فريق طبي بمستشفى كفر الشيخ الجامعي ينجح في إنقاذ مريضة تعاني من ورم    وزير الخارجية يؤكد حرص مصر على نقل خبراتها المتراكمة في مكافحة الإرهاب لدعم القدرات النيجيرية    قيادي بحزب مستقبل وطن: محاولات الإخوان لضرب الاستحقاق الانتخابي مصيرها الفشل    الزراعة تطلق منافذ متنقلة لبيع منتجاتها للمواطنين بأسعار مخفضة فى الجيزة    وصول الطفل ياسين مع والدته إلى محكمة جنايات دمنهور مرتديا قناع سبايدر مان    أسعار الفراخ البيضاء اليوم الاثنين 21-7-2025 في الدقهلية    27 شهيدا جراء غارات الاحتلال على قطاع غزة منذ فجر اليوم    ملتقى التفسير بالجامع الأزهر: حديث القرآن الكريم عن الليل والنهار شامل ودقيق لإظهار التعبير والمعنى المراد    ما الضوابط الشرعية لكفالة طفل من دار الأيتام؟.. الإفتاء توضح    المفتي يوضح حكم كيِّ الماشية بالنار لتمييزها    النفط والضرائب والسوق السوداء.. ثلاثية الحوثيين لإدارة اقتصاد الظل    بدء اختبارات التصفية الأولية لمسابقة إيفاد القراء خلال شهر رمضان    منتخب السلة يواجه إيران في افتتاح منافساته ببطولة بيروت الودية    "الزراعة" تطلق منافذ متنقلة لبيع منتجاتها بأسعار مخفضة في الجيزة    رئيس الوزراء يتابع موقف تقنين الأراضي المضافة لعدد من المدن الجديدة    بالفيديو.. الأرصاد: ارتفاع تدريجي في الحرارة والقاهرة تسجل 40 درجة مئوية    مصدر قضائي عن وفاة 5 أطفال أسرة ديرمواس: نتائج تحاليل مركز السموم سترد خلال 48 ساعة    سوداني يوجه رسالة شكر للمصريين على متن «قطار العودة»: «لن ننسى وقفتكم معنا» (فيديو)    السيطرة على حريق في مصنع زجاج بشبرا الخيمة    اليوم.. أولى جلسات محاكمة 39 متهما ب«خلية العملة»    لأول مرة.. 3 دبلومات بآداب قناة السويس للعام الجامعي 2025–2026    جامعة القاهرة تحتل المركز 487 بتصنيف ويبومتريكس الأسبانى يوليو 2025    بعد جدل إصابتها بالسرطان.. أنغام تنشر أحدث جلسة تصوير والجمهور يعلق (صور)    نادية رشاد تكشف كواليس انفصالها عن محمود الحديني: حالتي الصحية لا تسمح    فات الميعاد.. أحمد مجدي: شخصية مسعد تعبتني.. وبحاول أتخلص منه لحد دلوقتي    مكتبة الإسكندرية توثق التراث المصري بسلسلة أفلام قصيرة موجهة للشباب    وزير العمل: التأمين الطبي لعمال «الدليفري» من ضمن أشكال السلامة المهنية    تمهيدا لرفع الكفاءة.. متابعة علمية لمحطة بحوث الموارد المائية بطور سيناء    ضبط مصنعين غير مرخصين لإنتاج الشوكولاتة والحلويات بعلامات تجارية وهمية في الباجور    أسامة الجندي يوضح حكم الأفراح في الشرع الشريف    الجفالي والجزيري يتسببان في أزمة للزمالك.. ما علاقة زيزو؟    أيمن منصور: الحكم على صفقات الزمالك سابق لأوانه.. وفتوح أخطأ لكنه سيعود    الصحة: تقديم التوعية بمخاطر الإدمان ل457 ألفاً من طلاب المدراس    استمتع بمذاق الصيف.. طريقة عمل آيس كريم المانجو في المنزل بمكونات بسيطة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 21-7-2025 في محافظة قنا    ناقد رياضي يكشف تطورات صفقة وسام أبو علي بعد الأزمة الأخيرة    ألونسو.. الأمل في استعادة فينيسيوس لتألقه مع ريال مدريد    ترامب ينشر فيديو مفبرك بالذكاء الاصطناعي لاعتقال أوباما في البيت الأبيض    زعيم المعارضة الإسرائيلية: نهاجم في الشرق الأوسط حيثما نشاء دون سياسة واضحة    أحمد غنيم: المتحف المصري الكبير هدية مصر للعالم    شهداء وجرحى فى قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "صعبة".. وكيل مصطفى شلبي يكشف تفاصيل انتقاله للبنك الأهلي    وزير الثقافة يناقش حصاد لجان الأعلى للثقافة ويطالب بتطوير وتيرة العمل    اليوم.. «الداخلية» تعلن تفاصيل قبول دفعة جديدة بكلية الشرطة في مؤتمر صحفي    قمة صينية-أوروبية في بكين الأسبوع الجاري    لكل ربة منزل.. إليك أفضل الطرق لتحضير مكرونة الميزولاند    جريمة داخل عش الزوجية.. حبس المتهمة بقتل زوجها بالقليوبية    الشناوي يتحدث عن صعوبة المنافسة على الدوري.. وتأثير السوشيال ميديا    أنغام فؤاد ومنيب تتألق في صيف الأوبرا 2025 بحضور جماهيري كبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحلام قصيرة القامة
نشر في الشروق الجديد يوم 03 - 09 - 2011

أمام محطة قطار سيدى جابر، علبة صغيرة لها جدران ثلاثة من الصفيح، جوانبها متآكلة بفعل الصدأ، ومكتوبا على أحدها بخط اليد وبلون أخضر ممسوح: «يوجد لدينا جميع كروت الشحن»، «موبينيل وفودافون». العلبة صغيرة جدا لا يمكن أن يقف داخلها سوى شخص واحد بالكاد، وتشبه لفرط ضيقها تابوتا. لون الجدران الصفيحية الرقيقة أصفر كالح، وهناك خيط رفيع معلق بين مسمارين يقطع الواجهة المفتوحة، تتمدد عليه بضعة كروت متربة. تتدلى من سقف العلبة الصفيحى أيضا خرقة قماشية خضراء، تلمس الخيط وتخفى وجه قاطنة المكان الوحيدة.
شابة سمراء ممتلئة الجسم، محشورة داخل الجدران الثلاثة، لا تملك إلا أن تجلس على اللوح الأفقى المثبت فى الداخل أو أن تقف فى مكانها دون حركة، فالمساحة لا تتسع لأى وجود آدمى مريح.
حين عبرت من أمامها كانت تنظر بعيدا، حييتها تحية الصباح فلم تلتفت لى. اقتربت من العلبة ورفعت صوتى أكثر لكنها لم تدر رأسها باتجاهى، استدرت أنا لأصبح أمامها تماما، وأخيرا أدركت أنها لم تكن تتجاهلنى أو تتجاهل المارة، فقد كان مكتوبا على واجهة علبتها: «مشروع رعاية متحدى الإعاقة»، الشابة لا تسمع ولا تتحدث، فقط تشير بيديها فى صمت وتحتفظ بابتسامة ثابتة، دون أن تتمكن من جذب أى شخص لبضاعتها.
أصبح من المعتاد فى تفاصيل الحياة اليومية، رؤية أناس يعانون شظف الحياة وقسوتها، مسن يبيت فى الشوارع دون مأوى، طفل مريض يتم استغلال بؤسه وضعفه فى التسول، امرأة عجوز تجلس مستندة إلى حائط وتضع بجانبها متاعا مهترئا لم تفز بغيره من الدنيا، قلت لنفسى إن وضع الشابة هو بالقطع أفضل من أوضاع آخرين انقطعت بهم سبل العيش تماما، أناس كثيرون ربما تكون ظروفهم أسوأ يعيشون على الأرصفة وفى المناطق العشوائية والمقابر ولا يجدون عملا. حاولت أن أتجاوزها بأفكارى المستسلمة فلم أفلح، خاصة بعد أن وصل رجل خمسينى جرب أن يحادثها مثلما فعلت ففشل، ثم فطن بعد أن اقترب منها إلى العبارة المكتوبة على العلبة، فأشاح بيده منصرفا وضاحكا وهو يقول: «كويس إن الحكومة افتكرتهم بحاجة».
مشهد الشابة التى يغمر وجهها العرق دون جدوى، وعبارة الرجل الموجزة (سواء كانت ساخرة أو جادة) بدت من تمام العبث والهزل، ربما تنكص الدولة عن توفير الحد الأدنى من الحقوق والمتطلبات الأساسية للناس، ربما تترك مئات الآلاف دون وظائف وأيضا دون سكن ودون مرافق صحية وخدمات أولية، ربما ترفع يدها عن كثير من المشكلات، لكنها أيضا حين تقرر التدخل ووضع الحلول، فإنها تُظهِرُ عجزا مؤسفا، تقع فى أزمات جديدة تحتاج بدورها إلى حلول. مشروعات تقوم خصيصا لمساعدة أصحاب الاحتياجات الخاصة، يُتَوَقَّعُ منها أن تراعى البعد الإنسانى والأخلاقى، وأن تلتزم به، وأن تكون ذات فائدة حقيقية لا شكلية، وأن تحظى بشىء من الاحترام لا أن تصبح مثارا للسخرية والاستهزاء ومدعاة للخجل.
وضع الخطط والمشاريع التى تتعلق بخدمات نوعية مثل تلك، أمر يستحق أن يحظى بقليل من الدراسة قبل التنفيذ، فالعمل حق لجميع المواطنين وظروف العمل الملائمة هى أيضا حق مكفول للكل ومنصوص عليه، وتحديدا فيما يتعلق بأصحاب الاحتياجات الخاصة، أما أن تضع الحكومة مواطنيها داخل «قلاية» أو «فرن» شديد الضيق فى لهيب الصيف، تحت عنوان توفير فرصة عمل، ثم تتصور أنها تؤدى دورها على الوجه الأمثل فأمر جد غريب، وأن تجد من يقبل فعلها الكريه ومن يحييها عليه فأمر أكثر غرابة، لا تضاهيه إلا لافتة «مشروعات شباب الخريجين» التى تعلو عربات الخضار ولعب الأطفال ذات الثلاث عجلات، والتى تفترض أن الشباب يدرس فى الجامعة ويستهلك الوقت والجهد والمال، ثم يلقى بأحلامه وتطلعاته جانبا ويركز طموحه فى هدف وحيد، هو الوقوف أسفل تلك اللافتة وبيع الفاكهة والخضار. يتقلص الحلم على أيدى الأجهزة والمؤسسات الرسمية ويتحول إلى عقاب.
لا المواطن يشعر بقيمته ولا الدولة كذلك، ربما تعتبر تدخلها واضطلاعها بمسئوليتها منة أو نفحة لا يمكن محاسبتها عليها ولا السؤال عن مقدارها وقيمتها، تؤدى واجباتها كأنما تقوم بفعل خير تتفضل به على الناس، ولأن أحلام الناس بسيطة، فإنهم سريعا ما يرضون، مهما كان المقدم لهم صغيرا وتافها، بل وربما مؤلما. أحيانا ما تصبح القناعة بالنذر اليسير خصلة عقيمة، عيبا لا فضلا، ويصبح الرضاء بما هو موجود مدخلا لمزيد من التراجع والانتقاص من الحقوق.
ظلت الشابة فى مكانها لشهور، تجابه تحديا متواصلا، تحاول الصمود داخل علبتها المعدنية التى تكثف السخونة بعد أن تمتص شمس النهار الحارقة، وتحرك يديها محاولة التفاهم مع العابرين. لا أعرف إن كانت سعيدة أم لا، راضية أم ساخطة، تحلم حلما يتجاوز المكان أم تكتفى بوقفتها وابتسامتها وقطرات العرق التى لم تبرح أيها المكان. كلما رأيتها كنت أفكر أنها لو تنازلت عن «المشروع» وجلست على الرصيف فى ظل شجرة لكان الوضع أقل قسوة عليها، ولجمعت من المارة دون أن تنطق أضعاف ما تحصل عليه من وقفتها التعيسة، فلا أحد لديه من الوقت والصبر ما يدفعه للتوقف أمام علبتها، صور كثيرة باتت عادية نمر بها دون أن تحرضنا على الاستنكار أو الضيق أو حتى التعاطف، الكل صار مشحونا بهمومه الخاصة ومتاعبه، وفى غمرة الانشغال تسقط أشياء كثيرة، تضيع الفواصل بين الحقوق والهبات، ويكتفى الناس بأقل القليل، تصبح الأحلام قصيرة القامة وبعيدة عن التحقق.
فى زيارتى الأخيرة للإسكندرية كانت العلبة الصفيحية فى مكانها المعتاد، لكن الشابة لم تكن فيها.. تحت أشعة الشمس الخفيفة انتصبت العلبة وحدها، ساخنة وخاوية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.