«لاب توبك فى شنطتك، سحورك فى إيدك، واطلع ع السفارة». كتب عبدالصبور بدر جملته على فيسبوك، وطوى كمبيوتره المحمول، ليتحرك من وسط البلد باتجاه كوبرى الجامعة، وينضم إلى آلاف المتظاهرين أمام السفارة الإسرائيلية، غضبا من اقتحام قوات عبرية أراضى مصرية وقتل خمسة جنود فى سيناء. الساحة أمام عمارة السفارة الإسرائيلية، متنوعة المشاهد: هتافات تدعو الموقف الرسمى المصرى لمزيد من الحسم، وترفع مطالب طرد السفير العبرى من القاهرة واستدعاء المصرى من تل أبيب، ووقف تصدير الغاز فورا. الساعة الرابعة فجرا «صورنى يا عمو»، يقطع طفل لا يتجاوز عمره الأربعة أعوام، طالبا من شاب يحمل كاميرا تصويره. «حاضر يا عسل»، يجيب الشاب ذو الكاميرا، بينما يقف الطفل مبتسما فى استعداد للحظة الفلاش رافعا علم مصر. وسريعا يلحق به طفل آخر متخذا وضع الاستعداد للتصوير بابتسامة هادئة. فى جميع أنحاء الساحة الواسعة أمام تمثال نهضة مصر، وعلى كوبرى الجامعة، تتشكل دوئر حوارية يتناقش خلالها العشرات حول الأنسب اتباعه سياسيا «فى تلك المرحلة الحرجة من تاريخ مصر»، تتردد أسماء، الشاب الذى صعد العمارة وأنزل العلم الصهيونى، «أحمد الشحات»، والجندى المصرى الذى قتل جنودا إسرائيليين على الحدود ثم حوكم وأدين بالسجن قبل أن يتم قتله داخل السجن وتدعى السلطات حينها أنه انتحر «سليمان خاطر»، وثالثهم الزعيم الراحل، جمال عبدالناصر، كرموز لمواقف حاسمة فى تاريخ العلاقة بين المصريين والإسرائيليين. يستأثر الشحات بنسبة كبيرة من مناقشات الحضور: «أنا شفته بعينى، وبرده مش مصدقة»، تقول سيدة ثلاثينية جالسة على الرصيف، ويرد آخر: «إزاى طلع ال20 دور؟ ما تعرفش، الجزيرة مصورة كل حاجة، بس احنا كنا متفاجئين»، الدنيا هنا ولعت لما نزل العلم، تصفيق وصريخ وهتافات وضرب صواريخ». تتوافد أشعة الفجر الأولى إلى المكان، مصاحبة عشرات المواطنين، ويتزايد الزحام، وأصوات آلات التنبيه فى السيارات. الخامسة صباحا «شدوا حيلكو، ربنا معاكو»، يهتف قائد سيارة نقل كبيرة، مطلقا جرس سيارته، على نغمة: مصر، وتطل طفلتان تحملان علم مصر من شباكى أخرى ملاكى، تلوحان به مبتسمتين للآلاف المحتشدين، ومن داخل السيارة يعلو صوت امرأة منتقبة، وتصفيقها على إيقاع ندائها: الشعب يريد إسقاط إسرائيل. «ورينى يا حاج كاتب إيه؟» يوجه شاب يبدو فى أوائل العشرينيات من عمره إلى عجوز يقترب عمره من الستين. يمسك العجوز بلوحة ورقية مكتوب عليها: «يا طنطاوى خد قرارك لو عندك شجاعة، الشعب المصرى ما بيخافشى المهالك، ولا يعرف المياعة، هانحارب إسرائيل فى أم المعارك، وهندخل القدس. ده احنا أحفاد صلاح الدين والمولى بارك». يسند العجوز كوعه على صفحة من جريدة، تحوى مقالا للكاتبة سحر الموجى، بعنوان: «مينا مجدى إسكندر». «ده ابنى مينا، استشهد يوم 28 يناير عند قسم الشرابية»، يمد العجوز يده بنسخة الجريدة إلى محدثه. منذ أيام، رزق مجدى اسكندر بأول أحفاده من ابنه الشهيد، الذى كان ترك زوجته حاملا فى الشهر الثانى. «أنا جد لتسعة غير ابن ابنى مينا، عندى بنتين متجوزين، واحدة صيدلانية والتانية مدرسة إنجليزى، تخيل اللى صرف عليهم وجوزهم مين؟، ابنى مينا الله يرحمه». «أى شىء يمس بلدى، بيمسنى من جوايا، كإنك جبت سكينة وبتقطع فيا»، يبرر مجدى حضوره إلى تظاهرة السفارة الإسرائيلية. يعلو صوت انفجارات صادرة من موتوسيكل يقوده شاب بسرعة كبيرة، يغلق عم مجدى عينيه متأذيا قبل أن يعلو صوته بانفعال مفاجئ: «بيزعلنى الغباء بتاع الشباب ده». خلال ثوان، يهدأ الرجل: «أى شىء غلط بيحصل فى البلد بيستفزنى من جوايا، لغاية النهارده حاسس إن البلد بيتلعب بيها، حاسس إن اللى بيحصل متعمد، ما بين الحكومة المصرية والإسرائيلية، وأقولك ليه. لأن فيه قلق فى السياسة الداخلية هنا وهناك. هنا خايفين من يوم 9/9 ميعاد الثورة ضد العسكر، وإسرائيل عندها مشاكل داخلية ومظاهرات ضد الحكومة». يصمت مجدى قليلا، ليتحاشى ضوضاء الألعاب النارية، يطلقها الشباب باتجاه نوافذ السفارة الإسرائيلية، ومع كل صاروخ يقترب من النافذة تتعالى صيحات الاستحسان. «البلد من غير ريس عاملة زى المركب من غير ريس، هتغرق، علشان كده نفسى الشعب المصرى يقول عايزين رئيس يحكم البلد سنتين تلاتة، وليكن عمرو موسى أو البرادعى، يعملوا وزير داخلية بكفاءة أحمد رشدى يعمل استتباب للأمن فى مصر كلها، بحيث ينصف المظلوم ويقيم الحد على الظالم، ويعملوا دستور وانتخابات مجلس شعب ويحط الأسس اللى البلد تقوم عليها صح»، يضع مجدى تصوره لما ينبغى أن يحدث. الانفلات الأمنى الحالى، كما يعتبره عم مجدى، خطة مدبرة منذ 2005 «لما كان أيمن نور مترشح للرئاسة، قال لك لو فاز يخربوا البلد، وحرق الأقسام كان من ضمن الخطة، احنا قمنا على الأقسام من الظلم اللى فيها، بس الحرق كان من جوه». يستعيد عم مجدى سيرة سيناء، ويعيد تأكيده على تصوره بأن ما يحدث «خطة مطبوخة» لإجهاض الدعوة الثورية لمظاهرات يوم 9 سبتمبر ضد المحاكمات العسكرية للمدنيين». بعد مرور سبعة أشهر على رحيل مينا، يشعر والده أنه لم يمت «الدنيا لسه بخير، وبحس إن ابنى مينا ما ماتش، من حب الناس ليا، ناس معرفهمش غريبة عنى، يعرفونى باسمى وانا معرفهمش». يتمنى مجدى لو كان رسام كاريكاتير: «كنت هرسم عروسة بفستان الفرح، متكتفة إيديها ورا ضهرها، وهى متغمية، وفستانها عليه دم، وعريسها بيدور عليها وسط الزحمة ومش لاقيها، ياه لو كنت بموهبة مصطفى حسين كنت رسمتها، لو تعرف رسام كاريكاتير كويس، خليه يرسمها، دى الثورة اللى تاهت مننا فى يوم فرحنا بيها، ولسه بندور عليها». السادسة صباحا يجرى شاب حاملا مجسما لنصف علوى لرجل مقطوع الذراعين والرأس والساقين، مرسوما عليه شعار إسرائيل، ويعلقه فى إشارة مرور بنهاية كوبرى جامعة القاهرة، وسط هتافات المئات وتصفيقهم، تعلو أصوات: «احرقه، احرقه»، لكن الفتى يكتفى بتعليقه، قبل أن يقف فوق الإشارة ملوحا بعلم مصر، هاتفا: الله أكبر. بعد دقائق، يبدأ تغيير وردية الشرطة العسكرية، العشرات ينزلون من سيارات مصفحة، وينضمون إلى زملائهم الواقفين حاجزا بين المتظاهرين ومدخل العمارة التى تحتل السفارة الإسرائيلية الطوابق الثلاثة الأخيرة منها. المئات أمامهم يرددون هتافات: «أول مطلب للجماهير، حرق سفارة وطرد سفير»، و«هنرددها جيل ورا جل، بنعاديكى يا إسرائيل»، و«يا يهود يا يهود، عهد مبارك مش هيعود»، «هنرددها لطول العمر، إسرائيل هتشوف المر». «حضرتك صحفى؟»، يسأل رجل أربعينى، ويعرّف نفسه على أنه «عبدالظاهر مفيد، أمين التثقيف فى حزب الحرية والعدالة أمانة القاهرة». ثم يطلب الإدلاء بتصريح. «احنا موجدين فى الساحة من أول يوم، احنا انتظرنا إن بيان مجلس الوزراء يكون عند مستوى الحدث، لكن وجدناه أقل من طموحات الشباب، فقررنا ننزل مع الشباب بشكل رسمى»، يبدأ الرجل حديثه. «كنا نتمنى ومازلنا، إن مجلس الوزراء يكون على مستوى طموحات ومشاعر الشارع تجاه هذا الحدث»، موضحا أن «الإجراء اللى بينتظره المصريين، سواء الشباب أمام السفارة أو المصريين جميعا، واحنا بنحمل معاهم هذه المطالب: طرد سفير الكيان الصهيونى فورا، وأن يقوم هذا الكيان بعمل تحقيق فورى وعاجل علشان يعنى يحقق ما يطلبه هذا الشباب من تقديم من قام بهذا العمل لمحاكمة عادلة وفورية، والمطلب الثالث عودة سيناء لحضن المصريين، سيناء لا ينبغى أن تكون أبدا امتدادا للكيان الصهيونى وحامية له، إنما هى جزء عزيز من هذا الوطن، تكون خطا وحصنا استراتيجيا لمصر، بحيث ينتهى هذا التقسيم الذى كانت تمليه السياسات الخائنة التى كانت تمارس قبل 25 يناير». فى 2008، وبينما كانت آلة القتل الإسرائيلية تمعن الذبح فى قطاع غزة المحاصر، وقتها، أدلى مرشد الإخوان المسلمين حينها، مهدى عاكف، بتصريح قال فيه إن 20 ألف شاب من الجماعة كانوا على استعداد للسفر لنصرة إخواننا فى فلسطين. الآن، ومع احتمال تصاعد الموقف لما ينذر بمواجهة عسكرية بين مصر وإسرائيل، يشدد عبدالظاهر مفيد، باسم حزب الحرية والعدالة، التابع للإخوان المسلمين على: «احنا بنمارس أدوارنا السياسية، ودورنا الوجود فى الشارع والضغط السلمى على متخذى القرار حتى يؤدى ما عليه تجاه هذه الجموع التى تقف لنيل مطالبها»، ويكرر: «احنا بنمارس السياسية»، فى إشارة لرفضه إرسال «فدائيين» للقتال ضد إسرائيل فى حال نشوب حرب. السابعة صباحا «والله برافو عليهم الشباب دول، احنا معاهم وربنا يحميهم»، يزعق سائق الميكروباص العجوز، بحماس شديد. يمد الرجل يده ليعيد خصلة من شعره الفضى إلى مكانها، مكملا: إسرائيل مش سهلة آه، ومش سهل الاشتباك معاها، بس هما عايزين القلم السابق، يرقدهم، هما كده بيديك القلم الأول يخسرك الجلد والسقط، ويقول لك تعال نقعد، تعال نتفاهم، ومرتين تلاتة هووب، مات الموضوع». يؤمن الراكب بجواره على كلامه، ويشتم إسرائيل، فيقاطعه السائق مجددا: «عشان كده هما يضربونا الضربة، يقسمونا نصين، ويقول لك نقعد، نجتمع، نتفاوض.. طب ما أديك القلم اللى ادتهولك وبعد كده نتفاوض، علشان لما تفكر تانى تدينى قلم تعمل ألف حساب إنى هديهولك». «آه يا عم، طول عمرهم متجبرين، ربنا يقسمهم»، يتدخل راكب آخر. السائق الذى يكاد يحتكر الحديث، يشير بإصبعه إشارة خبير استراتيجى عارف ببواطن الأمور: «ما فيش حاجة اسمها مفاوضات، وتحط لى مبلغ فى الرصيد بتاعى»، وكما لو أن جملته نقلت الحوار لمنطقة أخرى، يتابع: «خلوا البلد ملطشة لكل من هب ودب، حسنى مبارك وشوية الزبالة اللى كانوا حواليه الله يلعنهم». من الخلف، يأتى صوت راكب: «شفت الواد اللى طلع نزل العلم؟»، يخطف السائق مسار الحديث مسرعا: «برافو عليه مجابتوش ولادة»، يصمت قليلا ثم يكمل: «اتنين ما عملوش معروف فى البلد، السادات وده» مشيرا بسبابته إلى شماله حيث الشارع. «السادات رفع علم إسرائيل فى مصر، وعمل اتفاقية، وإسرائيل ما بتلتزمش بأى معاهدات، هما أساسهم كده، يربطك انت بالمعاهدة وهو ينقضها، ويقرفك برده، طب ليه؟ خلى المعاملة بالمثل، هو نقض المعاهدة ننقضها احنا كمان. خلاص يعنى الإسلام مقطع بطننا أوى؟ طب ما تنفذوه، نفذوا الإسلام زى ما بيقولك اللى اداك القلم رده، العين بالعين والسن بالسن».