كان للسياسات الاقتصادية السابقة تأثير مدمر على الاقتصاد الحقيقى وعلى إنتاجيته الصناعية والزراعية والخدمية، كما شكل التحالف بين قوى الحكم والأعمال محورا لنهب الثروات ولإهدار حقوق الأغلبية فى الأنشطة الاقتصادية، ظهرت تداعياتها على شكل احتجاجات فئوية متكررة. فلقد فشل نظامنا الاقتصادى على جميع الأبعاد المالية والاجتماعية والبيئية فتدهورت الأجور بالنسبة لأسعار الغذاء، وارتفعت البطالة خاصة فى صفوف الشباب، وأدت الفجوة المتسعة بين الثراء والفقر إلى تآكل النسيج الاجتماعى، مما أثار الفتن والأنشطة الإجرامية، وارتفعت معدلات تلوث البيئة وصاحبها تدنى خصوبة الأرض الزراعية ونقص فى المياه النظيفة وتدهور فى صحة المواطن. وفى حقيقة الأمر فإن قيام الثورة بهذا الحجم الضخم من المشاركة الشعبية جاء نتيجة نظام اقتصادى فاقد للشرعية قام على أعمدة الفساد والظلم، ولن يؤدى إسداء النصيحة للشعب بالعمل والإنتاج إلى تجاوز المحنة التى خلفها هذا النظام وكما لن تجدى محاولات الترميم لإعادة دوران الاقتصاد الفاشل إلى سابق عهده، والطريق الصحيح أمام حكومة الثورة هو فى الاعتراف بعدم جدوى مكونات النظام الاقتصادى البائد، وإعادة هندسة اقتصادنا ليرتقى إلى مستوى طموحات ومتطلبات الشباب والجماهير العريضة التى فجرت الثورة. إن إجراء فحص صادق ودقيق لإشكالية تحقيق العدالة الاجتماعية مع اقتصاد السوق وليس مجرد رفع شعارات بهما وبناء حركة مجتمعية قوية مؤسسة على فهم ورؤية مشتركة لجذور المشكلة الاقتصادية وإرساء منهج ونمط جديد لاقتصادنا ومؤسساته لهو الضامن الفعلى لنجاح مسار الثورة. وتتحدد الأهداف الاستراتيجية للاقتصاد الجديد فى تحقيق الديمقراطية الاقتصادية التى هى أساس الديمقراطية السياسية السليمة بمعنى توفير الفرص للتنمية الفردية والمجتمعية والمشاركة الواسعة فى ملكية الأصول المنتجة وفى القضاء على تهديدات الأمن القومى التى تتشكل نتيجة عدم تكافؤ الفرص والتبعية فى الغذاء والطاقة والمياه وسوء الرعاية الصحية وأيضا نتيجة نظام مالى غير مستقر. إن تصميم نظام اقتصادى يعمل لصالح الكل يتطلب تحديدا لمفهوم تكوين الثروة ومصادر الرفاهية الإنسانية، ولقد تكونت الكثير من الثروات فى الماضى نتيجة للمضاربة والتدليس ومفاسد الاحتكار والدعم الحكومى فى غير محله وفى بيع السلع المغشوشة، ولقد أثبتت التجارب الاقتصادية فى الشرق والغرب أن التصنيع والاستثمار المباشر يؤديان إلى تراكم الثروة وإلى الرفاهة من خلال زيادة دخول الأفراد. فالثروة القومية تتشكل من نسب الدخل التى تتجه من الاستهلاك إلى الاستثمار فى المنشآت والآلات والتكنولوجيا، وهذا هو منطق الادخار والاستثمار المنتج مقابل لا منطق الاستهلاك وديون المستهلك تحت شعار «استهلك الآن وادفع مؤخرا» بهدف إحداث رواج اصطناعى للاقتصاد. ولا يعنى ذلك الاعتراض على الإقراض الاستهلاكى ولكن المقصود هو إحداث توازن بين ارتفاع ديون الأفراد والعائلات للاستهلاك وبين نمو الإنتاج بينما اتسم نظامنا الاقتصادى السابق بمعدلات استهلاك أعلى من معدل الزيادة فى الإنتاج أى ببساطة نحن نستهلك أكثر مما ننتج، ونفس السياسة أدمنتها أيضا الحكومات السابقة فارتفع الدين المحلى والخارجى نتيجة عجز الإيرادات مقابل النفقات، وقد يجد عجز الموازنة تبريرا له إذا ما استخدم فى استثمار رأسمالى منتج مثل جودة البنية الأساسية والصحية والتعليمية ومثل التطوير التكنولوجى لأنه رأسمال يساهم فى بناء القدرة الإنتاجية للوطن ويؤدى إلى تراكم ثروته، وأما الأزمة التى يعانى منها اقتصادنا فمصدرها أن العجز وجه بقدر أكبر لأغراض الاستهلاك لا الاستثمار، وكما أطلق العنان للاستهلاك المفرط من خلال استيراد دون قيود لمنتجات رخيصة من الخارج زاحمت المنتجات المصرية وأدت إلى إغلاق وتردى أوضاع العديد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة وإلى فقدان كم هائل من الوظائف المرتبطة بها. ولا يعنى ذلك أيضا غلق الأبواب وعزل اقتصادنا عن العالم الخارجى ولكن المطلوب هو إحداث التوازن فى علاقتنا التجارية مع الدول الأخرى بشكل يحقق المصالح المشتركة، ويتطلب ذلك السعى مع شركائنا فى العالم النامى وفى منظمة التجارة العالمية وبمساندة المجتمع المدنى العالمى لإرساء قواعد التجارة العادلة وليست التجارة الحرة على حد تعبير جوزيف ستيجلتز نوبل الاقتصاد المعروف، وتتراكم الثروة فى المجتمعات عبر الأجيال واقتصادنا يجب أن يقوم على زيادة المخزون من الأصول المنتجة لا أصول الفقاعة فى أسواق المال والبورصات والعقارات التى توجد اقتصاد شبح يؤدى إلى عدم استقرار يتنامى مع القوت، ولقد أدت بالفعل وفرة السيولة النقدية فى الأسواق نتيجة الإقراض الاستهلاكى وتكوين الثروات المالية الورقية من المضاربة بأنواعها دون عمل أو إنتاج إلى التضخم وتدنى القدرة الشرائية لأغلبية المواطنين، ولقد واكب الاقتصاد الشبح إعلام مرئى يشاهده الملايين يخدم بقصد أو دون قصد أهداف النظام الاقتصادى البائد وذلك بتأجيج نزعة الاستهلاك المفرط وبتشكيل ثقافة مادية وفردية وبالاحتفاء بالمكاسب المالية للمضاربة كمثال يحتذى به وطوعت اللغة فصارت كلمة المضاربة فى البورصة تعنى استثمارا وأطلقت على الثروة الورقية لفظ رأسمال! إن نظاما اقتصاديا جديدا سيتطلب بنية أساسية مساندة متمثلة فى مؤسسات إعلامية ديمقراطية ومستقلة عن سلطة المال وما ينطبق على الإعلام يسرى على المؤسسات التعليمية والثقافية والدينية. ان اقتصاد سوق حقيقى يتطلب ان تضع الحكومة قواعد اللعب فى الأسواق لا أن تسيطر على كل أوجه الحياة الاقتصادية، ولقد تمركزت السلطات فى يد الحكومة فى ظل اقتصاد الستينيات بينما تمركزت السلطة فى أيد أصحاب ومديرى المؤسسات المصرية الكبرى فى اقتصاد الألفية الجديدة، وأما المطلوب من الحكومات الخاضعة للمساءلة الديمقراطية هو أن تضع القواعد المنظمة للسوق بهدف تخصيص الموارد بكفاءة وتحقيق العدل الاجتماعى حيث إن النظام الرأسمالى فى مصر خضع لسلطة المال نتيجة غياب هذه القواعد، وهى القواعد التى تحد من المضاربة بأشكالها المالية والتجارية فى أسواق المال والعقارات والأراضى ومن الاحتكار ومن تكوين الثروات الورقية دون عمل أو إنتاج وتهيئ لازدهار المنشآت الصغيرة فى البيع والشراء مما لا يتيح التلاعب بالأسعار فى الأسواق نتيجة هيمنة الشركات الكبرى وبالذات الدولية، وهى القواعد أيضا التى تضمن توزيع الدخل والملكية دون ثراء فاحش أو فقر مدقع، والتى توفر المعلومات فى السوق بشفافية كاملة، وتوظف المدخرات فى البنوك لصالح رأس المال الإنتاجى بقدر أكبر من توظيفها للاستهلاك، وتحافظ على الاستثمار داخل الوطن من خلال شروط لانتقال الأموال واستثمارها فى الخارج تتفق وتنافسية الشركات المصرية على الساحة الدولية، وتجدر الإشارة بأن التغنى بمؤشر نمو الناتج الإجمالى ليس دليلا على التقدم والرفاهة الاجتماعية فقد يرتفع المؤشر رغم زيادة البطالة ونسب الفقر وتدنى الخدمات العامة وتعاظم الخلل فى الميزان التجارى مثل ما حدث فى مصر فى السنوات الماضية، وبالتالى فالأهم هو فى مراقبة ومناقشة مؤشرات الإنتاجية وجودة النظام التعليمى والصحى والنقل والمواصلات العامة ودرجة نقاء الهواء وخصوبة الأرض ودرجة اتساع الطبقة الوسطى ومعدل التقدم التكنولوجى والمعرفى والذى قام البنك الدولى بتحديد مؤشراته منذ عام 2002 تحت عنوان «المعرفة من أجل التنمية K4D». ولقد وضعنا العربة أمام الحصان من خلال هيمنة الفكر المالى والمؤشرات المالية البحتة على فكر الإنتاج والعمل وصارت على سبيل المثال البورصة ومؤشراتها شاغلنا الشاغل كأن الاقتصاد فى خدمة البورصة لا البورصة فى خدمة الاقتصاد وأعفينا الأرباح المتولدة منها دون عمل حقيقى من الضرائب بينما كان عمل منتج آخر خاضعا للضريبة، وتشكلت لدينا ثقافة اقتصادية لا تتحدث إلا بلغة صندوق النقد والمؤسسات المالية الدولية وهى لغة السياسات التى أدت إلى الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، وقد تراجع صندوق النقد مؤخرا عن أيديولوجيته الفاشلة واعترف بأن «التشغيل والانصاف الاجتماعى هما ركائز الاستقرار الاقتصادى والسياسى والطريق إلى الرفاهية والسلامة». والضرائب هى المصدر الرئيسى للانفاق الحكومى وهى أداة تحقيق العدل الاجتماعى والرفاهج المشتركة، والنظام الضريبى فى مصر الثورة يحتاج إلى مراجعة بفرض ضرائب على كل ربح يتولد دون عمل مثل المضاربة فى العقارات والأراضى والبورصة وبالذات الأرباح التى تتولد فى الأجل القصير، وفرض ضرائب تصاعدية على الدخول مع إعفاء للدخول التى تقل عن 50000 جنيه سنويا، وتطبيق ضريبة الثروة والتركات وتدرج ضريبة المبيعات حسب نوعية المنتجات والخدمات من حيث احتياجات الشريحة الأعضم من محدودى الدخل لها، وإلغاء الضريبة على أرباح الشركات تماما لأنها فى حقيقة الأمر تحمل فى النهاية على المواطن من خلال زيادة فى أسعار المنتجات والخدمات، وسوف يؤدى إلغاء تلك الضريبة والتى سبق أن اقترحها المفكر الاقتصادى العالمى Lester Thuroyw إلى عدة مزايا فى هذه المرحلة الانتقالية الحرجة منها إطلاق الاستثمار والتشغيل ومحاربة التضخم، وقد تتخوف الحكومة من نقص الإيرادات نتيجة هذا الاقتراح إلا أنه فى ظل الظروف الاستثنائية التى تمر بها مصر لا يتوقع حصيلة مرتفعة من ضرائب الشركات بل إن إطلاق النشاط الاقتصادى نتيجة لهذا الاقتراح ومع تطبيق الضرائب التصاعدية سيسمح بحصيلة متنامية، ونظرا لتخوف جهاز الضرائب من تحصيل الضرائب التصاعدية بسهولة من الأفراد يشترط أن تقوم الشركات والمؤسسات بتحصيل ضرائب الدخل من موظفيها والتى تزيد على حدود الاعفاء وتوريدها وذلك تيسيرا على جهاز الضرائب فى تحصيل هذه المستحقات فى توقيت مناسب للخزانة العامة. ورغم الضغوط السياسية والمجتمعية التى يعانى منها الوطن فى الوقت الراهم يمكننا استشراف فرص ذهبية للتقدم من خلال الطاقة التى فجرها شباب الثورة والتى يمكنها مرة ثانية تعبئة الجماهير ودفع الأغلبية السياسية نحو أجندة اقتصادية جديدة، وألا نعول فقط على الخارج ومساعداته ومنحه فى حل مشكلتنا الاقتصادية بل إن المساندة والاستثمارات العربية والدولية الجادة لمصر ستتعاظم فى حالة بلورة منهج اقتصادى وطنى واضح وشامل.