أسعار الذهب اليوم الثلاثاء بعد الارتفاع القياسي بجميع الأعيرة    هل هناك بنزين مغشوش.. وزارة البترول توضح    بعد هبوطه في 6 بنوك.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه اليوم الثلاثاء 6-5-2025    الحكومة الفلسطينية ترفض الآلية الإسرائيلية المقترحة لتوزيع المساعدات الإنسانية في غزة    السودان يطلب مساعدة السعودية للسيطرة على حريق مستودعات وقود بورتسودان    غارات إسرائيلية تستهدف سلسلة جبال لبنان الشرقية وبلدة طيرحرفا في جنوب لبنان    الحوثيون: ارتفاع ضحايا قصف مصنع بغربي اليمن إلى قتيلين و 42 جريحا    باكستان ترفض اتهامات الهند لها بشأن صلتها بهجوم كشمير    كانت متجهة للعاصمة.. الدفاعات الجوية الروسية تسقط 19 مسيرة أوكرانية    رونالدو يتصدر تشكيل النصر المتوقع أمام الاتحاد في الدوري السعودي    18 مايو.. أولى جلسات محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف خالد يوسف وزوجته    «شغلوا الكشافات».. تحذير من الأرصاد بشأن حالة الطقس الآن (تفاصيل)    جدول امتحانات الترم الثاني 2025 للصفين الأول والثاني الإعدادي بالجيزة    طرح فيلم «هيبتا المناظرة الأخيرة» الجزء الثاني في السينمات بهذا الموعد؟    الزمالك يستكمل اجتماع حسم مصير بيسيرو عصر اليوم    شعبة الخضروات: خلال الشهرين المقبلين سيحدث انخفاض في أسعار الليمون    النائب عاطف المغاوري: خلاف حول رفع الإيجار القديم 20 ضعفًا.. وطالبنا بشرائح    ترامب يرجح عقد اتفاق تجاري مع كندا خلال زيارة كارني    سقوط تشكيل عصابي تخصص في سرقة المواقع الانشائية بمدينة بدر    ضبط مبلط بتهمة الاعتداء الجنسي على طفل في المنيا بعد استدراجه بمنزل مهجور    الأزهر ينفي ما تم تداوله بشأن اقتراح وكيله بتشكيل لجان فتوى مشتركة مع الأوقاف    هل يجوز الحديث مع الغير أثناء الطواف.. الأزهر يوضح    5 مرشحين لتدريب الزمالك حال إقالة بيسيرو    مدرب سيمبا: خروج الزمالك من الكونفدرالية صدمة كبرى فهو المرشح الأول للبطولة    رغم هطول الأمطار.. خبير جيولوجي يكشف أسباب تأخير فتح بوابات سد النهضة    تامر حسني ومصطفى حجاج يشعلان حفل زفاف رنا رئيس    التعليم توجه بإعادة تعيين الحاصلين على مؤهلات عليا أثناء الخدمة بالمدارس والمديريات التعليمية " مستند"    فرط في فرصة ثمينة.. جدول ترتيب الدوري الإنجليزي بعد تعادل نوتنجهام فورست    لتفادي الهبوط.. جيرونا يهزم مايوركا في الدوري الإسباني    5 أسماء مطروحة.. شوبير يكشف تطورات مدرب الأهلي الجديد    جموع غفيرة بجنازة الشيخ سعد البريك .. و"القثردي" يطوى بعد قتله إهمالا بالسجن    وزير وفنان وطالب :مناقشات جادة عن التعليم والهوية فى «صالون القادة»    نائب وزير السياحة والآثار تترأس الاجتماع الخامس كبار المسؤولين بمنظمة الثمانية    محافظ الغربية: لا تهاون في مخالفات البناء.. واستعدادات شاملة لعيد الأضحى    شريف فتحي يقيم مأدبة عشاء على شرف وزراء سياحة دول D-8 بالمتحف المصري الكبير    رابط النماذج الاسترشادية لامتحان الرياضيات التطبيقية لطلاب الثانوية العامة 2025    مصرع طالب في حادث مروري بقنا    سعر الخوخ والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الثلاثاء 6 مايو 2025    مؤتمر منظمة المرأة العربية يبحث "فرص النساء في الفضاء السيبراني و مواجهة العنف التكنولوجي"    إيناس الدغيدي وعماد زيادة في عزاء زوج كارول سماحة.. صور    سفيرة الاتحاد الأوروبى بمهرجان أسوان لأفلام المرأة: سعاد حسنى نموذج ملهم    "READY TO WORK".. مبادرة تساعد طلاب إعلام عين شمس على التخظيظ للوظيفة    "كتب روشتة خارجية".. مجازاة طبيب وتمريض مستشفى أبو كبير    احترس من حصر البول طويلاً.. 9 أسباب شائعة لالتهاب المسالك البولية    10 حيل ذكية، تهدي أعصاب ست البيت قبل النوم    رنا رئيس تتألق في زفاف أسطوري بالقاهرة.. من مصمم فستان الفرح؟ (صور)    4 أبراج «ما بتتخلّاش عنك».. سند حقيقي في الشدة (هل تراهم في حياتك؟)    زيزو أحد الأسباب.. الزمالك مهدد بعدم اللعب في الموسم الجديد    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالجيزة (صور)    "كاميرا وروح" معرض تصوير فوتوغرافي لطلاب "إعلام بني سويف"    على مساحة 500 فدان.. وزير الإسكان يتابع الموقف التنفيذي ل "حدائق تلال الفسطاط"    تطور جديد في أزمة ابن حسام عاشور.. المدرس يقلب الموازين    جاي في حادثة.. أول جراحة حوض طارئة معقدة بمستشفى بركة السبع (صور)    هل ارتداء القفازات كفاية؟.. في يومها العالمي 5 خرافات عن غسل اليدين    أمين الفتوى يوضح حكم رفع الأذان قبل دخول الوقت: له شروط وهذا الأمر لا يجوز شرعًا    الإفتاء توضح الحكم الشرعي في الاقتراض لتأدية فريضة الحج    الدكتور أحمد الرخ: الحج استدعاء إلهي ورحلة قلبية إلى بيت الله    شيخ الأزهر يستقبل والدة الطالب الأزهري محمد أحمد حسن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القارئ حسن بارود يكتب: مازال القدر مملوءا
نشر في الشروق الجديد يوم 02 - 07 - 2011

عدت قبل عدة أيام من زيارة لمصر حرصت على القيام بها للوقوف على الواقع المصري الراهن بعد الأحداث غير المسبوقة التي حبست أنفاسنا طوال شهور أربعة خلت، تغيرت فيها أشياء وأحوال كثيرة وتبدلت.
نعم لقد أردت أن أشاهد الواقع المصري وأعيشه كما يعيشه الآخرون من مواطني بلادي أستمع إليهم وأتبادل معهم الآراء والأفكار، وأكون مشاعري وأحاسيسي الخاصة التي لا يمكن أن تتشكل من قراءة الصحف ومشاهدة التلفزيون.
المشهد الأول: زوال الأصنام
حقيقة الأمر أن إحساسا غريبا علي تسرب إلى نفسي بعد خروجي من مطار القاهرة، فلم تقع عيناي على أي من صور الرئيس السابق على امتداد الطريق من المطار وحتى بيتي بالقرب من ميدان الحجاز بالنزهة، كما خلت صحف يوم وصولي من أخبار مقابلات الرئيس وتصريحات نجله وتنقلات زوجته وهم الثالوث المقدس الذي سيطر على المشهد المصري طوال العقد الأخير على الأقل بعد أن اكتمل بانضمام الابن إلى الأب والأم الفاضلة منذ طفا على سطح الحياة السياسية في مصر.
خلاصة القول أن غياب أسماء وصور رموز النظام السابق عن العناوين الرئيسية للصحف ونشرات الأخبار المسموعة والمرئية يعطيك الإحساس بأن حجرا ثقيلا قد أزيح من فوق صدرك، وأن بمقدورك أن تتنفس بيسر وسهولة.
المشهد الثاني: الفوضى الإعلامية
تهيمن وسائل الإعلام بشكل غير مسبوق على الساحة التفكيرية للمصريين، نعم فأنت تقرأ مقالات في الصحف وتسمع أحاديث من الإذاعة وتشاهد حوارات في التلفزيون يوميا لنحو 50 اسما لأشخاص من مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية، نصبوا أنفسهم نخبة المجتمع المصري بعد الثورة، فهم المحللون والمفكرون والموجهون وطليعة الثوار وحكماء العصر الجدد القادرون وحدهم على توجيه بوصلة الحياة في مصر الجديدة.
أما الأخبار التي تنشر عن ثالوث الأسرة الحاكمة السابقة ورابعه النجل البكر للرئيس السابق فهي إما تكهنات أو تخمينات أو ربما مبالغات حول ما يجري معهم من تحقيقات أو عن أوضاعهم النفسية والصحية، ناهيك عن حجم ثرواتهم المعلومة والمجهولة، وكلها أخبار أو معلومات تساهم في ترويج بيع الصحف ورفع معدلات توزيعها، والسعي إلى "تكتيف" وربما تجميد المصريين أمام أجهزة التلفزيون التي تبث قنواتها الفضائية والأرضية سيلا لا يتوقف من الحوارات والمناقشات. لعدد محدود من الشخصيات - العامة- تتنقل من ستديو لآخر لتعيد على المتلقي ما في جعبتها من آراء وتحليلات وآراء تتكرر من قناة إلى أخرى ومن برنامج لآخر دون تغيير أو تجديد.
ولا تندهش إذا وجدت نفسك أمام شيوخ و" دعاة " وقساوسة ويساريين وقوميين وليبراليين، ومتشددين ومتطرفين، ومقيمين ومغتربين، ومسئولين سابقين وحاليين، كل منهم يسعى لإقناعك بأن رؤيته هي الرؤية المثلى لمستقبل مصر، وأن منهم كثيرين استخاروا الله فيما يقولون وما يفعلون، ولن يخلو الأمر من اقتباس لآية أو آيات من القرآن الكريم أو الإنجيل للتدليل على صحة آرائهم ومصداقية توجهاتهم. ومع ذلك فهناك برامج جادة تسعى بقدر الإمكان إلى تحقيق توازن بين الإثارة ورسالة التنوير.
الأمر الآخر أن كل هؤلاء يكتبون ويتحدثون من العاصمة، وكأن مصر اختزلت في القاهرة ليبقى ريف مصر وحضرها خارج العاصمة متلقيا فقط وليس فاعلا أو مشاركا في الفعل الوطني.
المشهد الثالث: الحالة الأمنية
لا تخطئ العين خلو معظم شوارع وطرق مصر بحضرها وريفها من عناصر الشرطة، ومن تواجد منهم ترى بعضهم خجولا مهزوما مستسلما لأقدار الشارع المصري العشوائي، فلا تنظيم للمرور، ولا انضباط في السلوك وكأن شيئا لم يحدث في البلاد، بل قد يحدث – وقد حدث فعلا- أن ترى من يتعمد المخالفة فيسير في عكس الاتجاه بتبجح ممجوج، وكأنه يتحدى رجل الشرطة، ولا يقيم وزنا لما قد يترتب عن سلوكه الفج من عواقب وخيمة لبشر مثله لم يسلكوا سلوكه المشين.
بالتوازي مع هذا المشهد ترى عددا من الوقفات الاحتجاجية والاعتصام في أكثر من موقع حيوي بالنسبة للحياة اليومية للمصريين تؤدي بالضرورة إلى شل حركة المرور وزيادة حالات السخط بين الكثيرين الذين تتعطل مصالحهم وهم محبوسون في سيارات وحافلات لا تتحرك من مواضعها في الشوارع والطرق وعلى الكباري وداخل الأنفاق لساعات طويلة!
وما يزيد الطين بللا أن جماعات كثيرة من المحتجين تلجأ إلى قطع الطرق بالكامل للضغط على الحكومة وابتزازها لتحقيق مطالبها مهما كانت مشروعة!
المشهد الرابع: سويقة رئاسة الجمهورية
يندر أن تجلس مع مصريين دون أن يطرح أحدهم على الحاضرين سؤالا عن رأيهم حول أي من الأسماء المطروحة على ساحة المنافسة على منصب رئيس الجمهورية، لكن الغريب وما أزعجني حقا خلال المناقشات أن شريحة كبيرة من المصريين مازالت تردد ما دأبت أبواق النظام السابق على ترويجه بشأن محمد البرادعي، فهو إما زنديق علماني، أو زوج لسيدة يهودية وصهر لمسيحي، ثم إنه أيضا جاء إلى مصر يحمل أجندة أمريكية تعمل على تقسيم مصر إلى ثلاثة أو أربعة دويلات، وأنه الممثل المعتمد لأمريكا في مصر.
لكني أقر أنني شعرت ببعض الارتياح بعد اقتناع كثيرين ممن تحاورت معهم بوجهة نظري حول تلك الادعاءات الكاذبة، خاصة وأنني أعرف الرجل وأسرته الصغيرة؛ فزوجته دمثة الخلق السيدة "عايدة الكاشف" كانت زميلة لي في مدرسة فيينا الدولية حيث عملت مدرسة في روضة أطفال المدرسة لسنوات طويلة، كما أنني أحد المشاركين – من وراء الكواليس- في تنظيم عملية زواج كريمته "ليلى" في السفارة المصرية بفيينا من مواطن كان مسيحيا واعتنق الإسلام، كما أقام سفير مصر السابق لدى النمسا "رمزي عز الدين" حفل العرس بمنزل السفير.
ملاحظة أخرى بشأن الجدل الثائر حول المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية هي غياب رؤية واضحة لدى كثير من المواطنين لدور رئيس مصر القادم، خاصة مع غياب تصور واضح لمستقبل شكل نظام الحكم القادم في مصر، فهل سيكون نظاما برلمانيا أو رئاسيا، أو خليطا من النظامين؛ فمعظم المرشحين يعدون المصريين بدولة كبرى وعظمى تسودها العدالة الاجتماعية والرخاء والرفاهية والشفافية وكأن رئيس الجمهورية القادم سيمتلك عصا سحرية ويمتلك إرادة وقدرة إلهية فيقول للشيء كن فيكون، ويتناسى أولئك المرشحون أنهم لا يعرفون بعد أي نظام دولة سيرأسه الرئيس القادم، هل سيكون رئاسيا يصبح فيه الرئيس هو اللاعب الرئيسي وربما الوحيد، وهل ستكون مصر دولة ذات نظام برلماني لرئيس وزرائها السلطة الأقوى والأكثر قدرة على صياغة سياسات الدولة، وكيف ستكون العلاقة بين الرئيسين– رئيس الدولة ورئيس الوزراء- في هذه الحالة، أم أن نظام دولة مصر بعد الثورة سيكون خليطا من الرئاسي والبرلماني؟!
خلاصة القول أن حالة الجدل الثائر حول رئاسة الجمهورية تضيف إلى حالة الغموض العامة التي تتعلق بمستقبل نظام الدولة المصرية بعد الثورة بعدا آخر لحالة التخبط المهيمنة على الساحة السياسية في البلاد، خاصة مع ظهور مرشحين يصنف بعضهم على أنه فقيه في الدين، أعلن عن نيته في الترشح من قاعة مناسبات ملحقة بأحد مساجد القاهرة، فهل نحن بصدد نظام آخر جديد لمصر الجديدة هو ولاية الفقيه؟!
المشهد الخامس: الحالة الاقتصادية والمعيشية
أسفرت الاضطرابات الطائفية والاحتجاجات الفئوية وغيرها من مظاهر الانفلات والتفكك التي أصابت مصر عقب ثورة الشعب المصري قطاعات حيوية في الاقتصاد المصري كالسياحة والتصدير في مقتل، الأمر الذي أدى إلى تسريح الآلاف من شباب مصر العاملين في قطاع السياحة وغيره من القطاعات الحيوية لتواجه عشرات الأسر المصرية مصاعب جمة في تدبير قوت أفرادها والوفاء بالتزاماتهم الحياتية فتراجعت القوة الشرائية للمصريين وحل كساد اقتصادي ملموس أثر بدوره على العاملين في قطاعات التجارة والخدمات.
في مقابل ذلك لم نلمس تحركا إيجابيا من جانب المسئولين عن السياحة في مصر فلم تشجع شركة الطيران الوطنية المصريين في الخارج على زيارة مصر بأسعار مريحة ليشغلوا غرف الفنادق الشاغرة وينفقوا أموالهم في بلادهم، متعللة بحجم الخسائر التي نجمت عن تراجع معدلات السفر إلى الوطن خلال فترة الثورة وما بعدها، ثم فاجأنا مسئولو مصر للطيران مؤخرا بزيادة الوزن المسموح به للركاب، وكأن هم المصريين فقط في مقدار ما يحملون من أثقال، لأن السائح الأوروبي وغيره من الأجانب لا يولي أهمية للوزن المسموح له باصطحابه، وإنما سعر تذكرة الطيران إلى مصر.
بجانب كل هذا فإن استمرار الأوضاع على ما كانت عليه في المحليات دون أي تعديل أو تغيير يساهم بدرجة كبيرة في ترسيخ الاعتقاد لدى شرائح كثيرة من المصريين بأن الفساد الإداري سمة أساسية من سمات وخصائص المجتمع المصري المعاصر، وأن ما يقال عن الثورة لا يعدو حيز ميدان التحرير وصفحات الجرائد وغرف القنوات الفضائية، فلا وجود فعلي وحقيقي لثورة مصرية في محافظات مصر، ولا تغيير إيجابي ملموس في أي من نواحي الحياة اليومية للغالبية العظمى من المصريين، وإنما التغير الظاهر والواضح فينحصر في انتشار الدعاة والوعاظ في ربوع مصر للترويج للدولة الدينية التي تحكم بما أنزل الله، وتكفير من يسمونهم بالعلمانيين والليبراليين المحرضين على السفور والإباحية!
المشهد السادس: الخوف من المستقبل
في ظل حالة الغموض التي تلف الوضع المصري العام تنتشر الشائعات والتكهنات والتوجسات التي تغذيها ثقافة غريبة للحوار الإقصائي، فكل فصيل يسعى لاحتلال الساحة والانفراد بها، وارتفعت لغة التخوين والتشكيك في النوايا والمقاصد.
وفي رأيي أن هذه الظاهرة المرضية نتيجة طبيعية لغياب، وربما انعدام التربية السياسية السليمة للشعب المصري طوال العقود الستة الماضية، فقد نشأنا وتربينا وكذلك آباؤنا في مجتمع يفرض عليه حاكمه فبدلا من أن يخدم شعبه يتحكم وبطانته في أقداره فيقيدون المواطنين بالهموم اليومية التي تتكالب عليهم فلا يستطيعون منها فكاكا. مجتمع أحادي الرؤية المفروضة عليه من النخبة الحاكمة والمتحكمة، فالرئيس رئيس الدولة والحزب ورئيس فعلي أو شرفي لكل مؤسسات الدولة الفاعلة ابتداء من الجيش مرورا بالشرطة والقضاء، وهو الحاكم بأمره ولا راد لحكمه، وقس على هذا كل رئيس لمؤسسة أو مصلحة والشعب مغيب عن العمل والمشاركة بل وربما التفكير. بجانب هذه الأصنام الدنيوية هناك أصنام أخرى "روحية" هم رجال الدين يقررون مصائر الناس في الآخرة كما يقررها رئيس الدولة وبطانته في الدنيا، فلا تقل سطوتهم وسلطتهم كثيرا عن سلطة وسطوة الفرعون الأكبر، فمنهم من يهادنه وينافقه لينعم بجواره ويستأنس ويأنس برضاه، ومنهم من يخرج عليه، لا لشيء إلا ليحل محله في الحكم، ومصر والمصريون بين مطرقة ضغوط الحياة ومصائبها وسندان التشدد والتخاذل لرجال الدين.
كل هذه الأمور المتداخلة أفرزت إنسانا مصريا سلبيا أنانيا يرى سطوة المال والسلطة تخنقه فلا يعنى بأمور بلاده وهموم الوطن وإنما يسعى للنجاة بنفسه والمقربين منه، فتراجع الانتماء للوطن ليصير انتماء الكثيرين لمن يطعمهم ويعينهم على الثراء والفساد، وازداد التعصب للعقيدة – لكونها في نظر الكثيرين طوق النجاة الأوحد- وضاقت صدور المصريين، فلا تقارع حجة بحجة، ورأي بآخر، وفي غياب الحرية والعدالة يزول العدل والاعتدال، ليتصارع الناس على فريسة – هي في النهاية وطنهم- كل يسعى لاقتناص ما تظفر به يداه أو مخالبه، وأضحت مصر مباحة للمغتصبين، بعضهم لا يتورع عن اغتصابها في وضح النهار، وآخرون يغتصبون من وراء حجاب.
نعم إن خطايا النظام السابق ومن سبقه من حكام مصر مسئولة وحدها عن مصير مصر المعاصرة، فقد أساءوا استغلال السلطة وتعمدوا إهمال تربية المصريين تربية سياسية سليمة، لتبقى كراسي السلطة والنفوذ في حوزتهم، ولينعموا وبطانتهم دون غيرهم بثرواتها، فانتشر الجهل والفقر، واختفى التضامن والتكافل والتسامح والجمال من حياة شعب بأكمله، وتراجع دور مصر في نفوس شعبها وشعوب جيرانها وانتهكت حرمات المصريين في شتى بقاع الأرض بعدما انتهكت في أرض الوطن، فهنا على أنفسنا والناس بعد أن كنا أعزة أقوياء.
لقد تصور حكام مصر على مدار العقود الستة الماضية أن صمت المصريين يعني موافقتهم على ما يقع لهم وعليهم من مظالم، وظنوا - وكانوا آثمين في ظنهم - أن المياه في قدور المصريين لن تغلي، لتزحزحهم عن مواقعهم، وتخيلوا أن الموت وحده هو القادر على إزاحتهم من سلطانهم. لذلك حرص آخرهم على انتقال السلطة لنجله ليمتد مجد الأسرة الحاكمة لعقود أخرى آتية. لقد خدعوا أنفسهم بظاهر المصريين، وأغفلوا حقيقة بديهية أن النار الهادئة تؤدي، ولو بعد حين إلى الغليان.
المشهد قبل الأخير: ماذا عن الثورة؟
من خلال مناقشاتي مع أطراف عدة في مصر تفاوتت درجات تعليم وثقافة ووعي أشخاصها وكذلك من خلال متابعاتي لأحاديث المصريين العاديين الذين لا يكتبون في الصحف ولا يظهرون على شاشات المحطات الفضائية يمكنني أن ألخص الأوضاع الراهنة في مصر على النحو التالي:
- أن لفظ الثورة الذي تردده الألسنة بدون مردود واقعي ملموس في حياة معظم المصريين، بل هو مجرد لفظ يمكن أن نصفه بأنه يعبر عن رغبة في نفوس مردديه في تحقيق تغيير حقيقي في مصر لم تتضح ملامحه بعد.
-
- أن غياب قيادة حقيقية وفعلية للثورة لا يؤخر فقط اتضاح معالمها، بل يعيق مسيرتها ويحجب الرؤية أمام الذين شاركوا في انتفاضة الشعب وعرضوا حياتهم للخطر من الآملين في تحقيق التغيير المنشود.
-
- أن ما حدث في مصر طوال الفترة من 25 يناير وحتى الآن يمكن أن يوصف بأنه بدأ بحالة غليان شعبي عارمة أدت إلى فوران قدر السلطة الحاكمة فأزاحت تلك الفورة رأس النظام وكبار معاونيه، لكن بعد تراجع شدة النيران تحت القدر توقفت حالة الغليان ومن ثم الفوران، وبالتالي توقفت عملية "طرد" القابعين داخل القدر المملوءة بالمفسدين والناقمين على ما حدث.
-
- أن استمرار بقية أركان النظام السابق في مواقع المسئولية في العديد من القطاعات - وربما في أغلبيتها- حتى الآن يعوق حركة التحول الثوري الذي يجب أن يستمر وبقوة دفع ملموسة، حتى نرى فعلا مظاهر ثورة وليس فورة.
-
- أن تعدد آباء الثورة يجعلها فريسة مستباحة لقوى انتهازية تصورت أن مجرد خروجها في المظاهرات يؤهلها للاستيلاء على الثورة والاستحواذ على ثمارها.
-
- أن حالة التضارب والتداخل التي تتسم بها عملية اتخاذ القرارات والإجراءات من جانب القائمين على أمور البلاد نتيجة طبيعية لغياب برنامج واضح للثورة يحدد أهدافها وإستراتيجية تحقيق تلك الأهداف، بدليل انقسام المجتمع حول تحديد آليات العمل في الفترة المقبلة وحالة الانقسام الواضحة داخل المجتمع بين المطالبين بوضع الدستور قبل الانتخابات ومخالفيهم في الرأي.
-
- أن فشل جلسات الحوار الوطني وسعي معظم الأطراف المشاركة إلى إقصاء أطراف أخرى يمثل عبئا قوميا لن تتمكن البلاد من التخلص من توابعه في المستقبل القريب، بل سيؤدي إلى زيادة أعراض حالة التربص بين الفرقاء داخل الوطن الواحد.
-
- أن ربط السلوك الوطني بالالتزام الديني للمواطنين يحصر المصريين داخل إطار مصطنع يتعلق بالمطلق وليس النسبي من الأمور، ويلزمهم بقبول أحزمة للعفة يتولى رجال الدين تثبيتها على عقول وضمائر المصريين.
-
- أن الحرية والعدالة الاجتماعية هما الضامن الحقيقي لتحقيق نقلة حقيقية ومؤثرة في حياة المصريين، وأنهما لن يتحققا بدون إفساح المجال لكل من يرغب في المساهمة والمشاركة في صياغة مستقبل الوطن على أساس من المساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين في إطار من الشفافية والمحاسبة.
-
- أن تمسك المصريين بالعدالة والاعتدال هو السبيل الأمثل لطمأنة العالم من حولنا بأننا أرباب ودعاة حضارة إنسانية سامية تبث روح التفاؤل في المجتمعات المجاورة، وتعيد الروح للشخصية المصرية داخل محيطها العربي والإقليمي.
-
- وأخيرا، ما أحوج المصريين اليوم وليس غدا إلى صياغة دستور حديث مستنير يحدد أطر العمل الوطني وينظم العلاقة بين المواطنين والدولة من ناحية وبين مؤسسات الدولة الحديثة؛ دستور يعبر عن ثورة مصرية غير مسبوقة تعلي قيمة الإنسان المصري ووطنه وتفتح آفاقا للعمل الجماعي بما يكرس انتماء المصريين لوطنهم وأمتهم والمجتمع الإنساني.
-


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.