على مائدة الغداء، وبجوار نافذة فندق فخم، جلست أمامه أتحين الفرصة ليكمل طعامه وأبدأ حديثى معه، فلن تستطيع أن تحاور الشيخ راشد الغنوشى المفكر الإسلامى المعروف، إلا إذا ذهبت إليه فى منفاه بلندن. تناولنا قليلا من الطعام بعد يوم ساخن فى مؤتمر شعبى عالمى عن فلسطين فى المدينة الرائعة إسطنبول، سألنى عن الإعلام والصحافة المستقلة والقومية فى مصر، فانفتحت شهتى للكلام، خاصة أن الشيخ يتمتع بخفة ظل، فأخرجت جهاز التسجيل، ورحت أسأله عن القدسوفلسطين وراح يجيب.. فهدأ النهم الصحفى، وبرد طعام الشيخ.. وكان هذا الحوار الذى قد تختلف مع أفكاره، لكن لا تملك إلا أن تحترم صاحبه. الشروق : يجتمع اليوم فى اسطنبول مئات العلماء من جميع الجنسيات فى مؤتمر شعبى عالمى لتحقيق النصرة الدائمة لفلسطين، ورأى الدكتور حمدى زقزوق وزير الأوقاف المصرى وآخرون أن زيارة المسلمين للقدس تعد دعما ونصرة للمقدسيين حتى لو تمت بتأشيرة إسرائيلية، فهل تتفق معه فى هذا الرأى؟ الغنوشي: لا طبعا، كيف يكون الاعتراف بإسرائيل مساعدة لأهل القدس، إنه تطبيع جديد وتضييع لأوقاف الفلسطينيين وقبلتهم الأولى، وهذه الدعوة لا تنفصل عن مقصدها ونهايتها، وهى تكرس للقبول بالاستعمار، فنعتاد وجود أختام إسرائيلية فى جوازات سفرنا، وندعى أننا نناصر القدس! إنه أمر مخز، وهو ذل جديد للأمة. كان يجب على أهل الدين أن يصدروا فتوى بأن الاعتراف بإسرائيل حرام شرعا وبحرمة التعامل مع الكيان الصهيونى، ويطالبون بألا يرفرف علم هذا الكيان فى سماء أكبر عاصمة عربية، هذه هى المساندة الحقيقية. الشروق : لكن أهل القدس أنفسهم أو بعضهم بشكل أدق والكثير من الوزراء فى الحكومة الفلسطينية يرحبون بتلك الزيارة؟ الغنوشي : رغم أن القدس ملك للمسلمين جميعهم، كما أن مكة ملك للمسلمين، فإن القدس، والمسجد الأقصى من المفروض أن يدير شئونه الفلسطينيون، كما تدير السعودية شئون مكة، والتصرف يكون للمسلمين كافة فى قضية زيارة كبرى مثل زيارة القدس الشريف. الشروق : إذن، يجب على المسلمين زيارتها؟ الغنوشي : بل يجب على المسلمين تحريرها، فهل كثرة الزيارات تحرر الأقصى، هل ستعيد السيادة الإسلامية، وهل الزيارة جزء من استراتيجية لاستعادة الأقصى ووقف عمليات تهويده أم أنها تعد تكريسا للسيادة على القدس وتطبيعا جديدا مع الكيان الصهيونى ،ثم إن الصلاة فى المسجد المغتصب مشكوك فيها، لغير سكانها، ولا ينبغى زيارة أى بلد تحت الاحتلال. الشروق : عفوا، فضيلة الشيخ، هل تتحدث وفقا للشرع والفقه، أم رأيكم قائم على قراءة الواقع؟ الغنوشي : الشرع قائم على مصالح العباد، والمصلحة ليست مع الزيارة التى تسمى «تسللا»، فعلينا مقاطعة إسرائيل، فالمنكر إن لم نستطع تغييره.. فعلى الأقل نقاطعه ولا نتعاون معه. الشروق : تتحدث عن مقاطعة اسرائيل، وهناك شباب مصرى وعربى تزوج من إسرائيليات، فهل تراه زواجا باطلا؟ الغنوشي : الزواج من الكتابية مباح، ولا شىء فيه، لكننا فى حالة حرب مع إسرائيل، وربما يؤدى هذا إلى أخطار أمنية واجتماعية، ويجب وضع هذه الحالات تحت الميكروسكوب، وإذا أثبتت الدراسة الأمنية والاجتماعية شبهة وجود خطر أمنى فتحرم هذه الزيجات بدون شك. الشروق : هناك تسارع لبناء المستوطنات وطرد للعرب والمسلمين من ديارهم واقتحام الأقصى من حين لآخر ومحاولة تهويده، علام تدل هذه السرعة؟ الغنوشي : السرعة تهدف للسعى إلى إقامة الدولة اليهودية فى أقرب فرصة، خاصة مع تقاعس الدول العربية والإسلامية مما شكل فرصة للاحتلال والتهويد تستغلها الحكومة الإسرائيلية أكبر استغلال، فلو كان هناك عزم حقيقى على حماية المقدسات وتحرير الأراضى لما اقترفت إسرائيل تلك الجرائم. وفى ظل تخاذل معظم الحكام العرب وعدم تقديمهم حلولا عملية، يجب على الشعوب أن تمارس ضغطا على الحكام، وتطالبهم بأن يرفعوا أيديهم عن المقاومة، ويتركوها لجهادها، فلم يستطع العدو الصهيونى القضاء على حماس.. بل على العكس.. فقد انتقلت قضية فلسطين برمتها إليها، مما يؤكد فشل إسرائيل فى حربها على غزة ومحاولتها كسر شوكة المقاومة. الشروق : الشيخ راشد ونحن نتحدث عن المقاومة، هل ترى أحقية حزب الله فيما قام به من تشكيل خلية بمصر بهدف مساعدة غزة، ألا تراه انتهاكا لأمن مصر القومى؟ الغنوشي : هذه القضية تجاوزت الحدود، فهذا الحزب للمقاومة فقط، وليس صحيحا استهدافه أمن مصر القومى، بل إن المسألة برمتها تدور فى فلك الهجوم على المقاومة، ولم يثبت أن الحزب دخل فى أى صراع مع أى نظام، فهدفه فقط الدفاع والجهاد، والقضية مرتبطة بالإمعان فى الهجوم على إيران. ثم أنه يعلن من آن لآخر فى مصر عن ضبط أفراد يتجسسون لصالح إسرائيل، فلم نقرأ سوى عدة أخبار تنشر بهدوء فى الصحف، وتتم إحالة المدان إلى القضاء وينتهى الأمر عند هذا الحد، دون أن يتم تنظيم حملات إعلامية كما حدث مع حزب الله، مما يدل على نية مبيتة للثأر من حزب الله وحماس وإيران، فانقلبت الأمور رأسا على عقب فى التعامل بين المقاومة والاحتلال، فبدلا من إدانة العدو الصهيونى، الذى يهدد الأمن القومى حقيقة، كان التهديد والوعيد من نصيب المقاومة. الشروق : قلت إن القضية ترتبط بالهجوم على إيران.. فلماذا يحدث ذلك هل لأنها بحسب آراء المحللين تدعم حزب الله أم لملفها النووى أم للمد الشيعى؟ الغنوشي : «شوفى» أستاذة، إن ما يقال عن الملف النووى لإيران والمد الشيعى ومساندة حزب الله، مجرد كلام ومخاوف وهمية للتغطية على قضية الفلسطينية، فتركنا العدو الأصلى وبحثنا عن أوهام. إذا كانت إيران تدعم حزب الله والمقاومة الفلسطينية، وهم عرب يدافعون عن الأراضى العربية، فمن الأولى أن تقوم الدول العربية بتلك المهمة، فما الذى يمنع تلك الدول التى لا تحصى أموالها من مساعدة المقاومة وسد الذرائع وإغلاق أبواب المد الشيعى والهيمنة الإيرانية التى يتحدثون دوما عنها.. أى كما تقولون فى مصر «لا يرحم ولا يسيب رحمة ربنا تنزل»؟ الشروق : ما تقييمك لملف المفاوضات التى تجرى منذ سنوات، هل أضافت جديدا للقضية الفلسطينية؟ الغنوشي : نعم هى حققت استفادة كبيرة، ولكن للعدو الصهيونى، فكرست لوجوده السياسى، ولم نر أى تقدم ملحوظ فى ملف التسوية المزعوم، ولم تحل أى مشكلة، بل إن المفاوضات تؤجل دائما الملفات الأساسية فى الصراع العربى الصهيونى مثل حق العودة والجدار، فأصبحت غزة الدولة الوحيدة، التى تعيش وسط جدران خرسانية، حتى حوارات الفصائل الفلسطينية، التى تتم فى القاهرة أراها ترقيعا للوحدة، لأنها تتم على أرض التسوية وليست على أرض المعركة ولن أكون متشائما إذا قلت إن المفاوضات «خدرت معظم شعوبنا وحكامنا لتمتد المستوطنات كألسنة النار تلتهم الأراضى الفلسطينية، ونحن مستمرون ومفاوضون.. والحل هو المقاومة. الشروق : هناك دعاوى لفصل الدين عن السياسة، فهل تتفق معها؟ الغنوشي : سيدتى، قبل أن نخضع لتأويلات، دعينا نحرر المصطلحات، فالسياسة تعنى رعاية شئون المواطنين لتحقيق العدل بينهم فى كل شىء، ودعم التعايش السلمى المبنى على أسس وقواعد وصولا إلى تحقيق السعادة لهم، وجاء الإسلام يحمل من ضمن ما يحمل السعادة للناس على أسس العدل والحرية.. إذن لا انفصال أبدا بين الدين والسياسة، بل إن السياسة أصل من أصول الإسلام وتستمد آلياته منه، وفى الدولة المسلمة تمثل قواعد الحكم أفضل طريق لهذا الاستمداد. الشروق : وماذا عن المرأة ودورها فى المجتمع وحالة الوهن التى سيطرت على الأسرة المسلمة والعنف الذى بات لصيقا لنا؟ الغنوشي : المرأة لها كل التقدير والاحترام وهى أساس المجتمع، لكنها منعتنى من تناول طعامى، ويضحك كثيرا. الغنوشي في سطور : ولد الشيخ راشد الغنوشى رئيس حركة النهضة الإسلامية بتونس عام 1941بقرية الحامة بالجنوب التونسى، وتلقى تعليمه الابتدائى بالقرية، ثم انتقل إلى مدينة قابس، ثم إلى تونس العاصمة، حيث أتم تعليمه فى الزيتونة، وانتقل بعدها إلى مصر لمواصلة دراسته، ثم انتقل إلى دمشق فى سوريا، حيث درس بالجامعة، وحصل على الإجازة فى الفلسفة، وهناك بدأت تتبلور المعالم الأولى لفكره الإسلامى. وانتقل الشيخ راشد الغنوشى إلى فرنسا لمواصلة الدراسة بجامعة السوربون، وبدأ نشاطه الإسلامى وسط الطلبة العرب والمسلمين، كما تعرف على جماعة الدعوة والتبليغ. وفى نهاية الستينيات عاد الشيخ الغنوشى إلى تونس، وبدأ نشاطه الدعوى وسط الطلاب وتلاميذ المعاهد الثانوية، الذين تشكلت منهم حركة الاتجاه الإسلامى المعروفة بالنهضة. وحوكم الشيخ بسبب نشاطه الدعوى والسياسى عدة مرات، وحكم عليه بالسجن المؤبد غيابيا فى بلده عام 1987. من مؤلفاته: طريقنا إلى الحضارة، ونحن والغرب، وحق الاختلاف وواجب وحدة الصف، والقضية الفلسطينية فى مفترق الطرق، والمرأة بين القرآن وواقع المسلمين، وحقوق المواطنة فى الدولة الإسلامية.