فى مدينة بيزنطة، اسطنبول الآن، دخل أهلها، وأحبار الكنيسة فى نقاش طويل حول جنس الملائكة، حتى انشغلوا، تماما، عن سماع ضجيج جيوش السلطان محمد الفاتح العثمانى، وهى تطوق مدينتهم بالكامل. كان ذلك فى 1453. بعدها شاع ما يعرف ب«الجدل البيزنطى». فى هذه الأيام، يدخل الناس فى نقاش طويل، يشبه ما حدث فى 1453، حول شكل الدولة المصرية بعد ثورة 25 يناير، الذى من المفترض أن يكون محسوما. الكل يردد مصر «دولة مدنية»، دون تحديد ما هى المدنية بالضبط؟ هل المقصود مدنية أى لا دينية، أم لا عسكرية أم شىء آخر؟ تفرع من هذا الجدل البيزنطى، جدل آخر مجانى حول العلمانية والليبرالية فى مقابل السلفية والأصولية، وتداخلت معه نقاشات طويلة، صدّعت الناس حول التخوف من ارتماء الثورة فى حضن حكم العسكر. ولا نبالغ إذا قلنا إن حل كل هذا الجدل يكمن فى «الفلسفة والتاريخ». فى الفلسفة، نعرف أن ثمة ثلاثة أقاويل عن نشأة الليبرالية: قيل أولا إن عام 1812 هو بداية تداول هذا المصطلح لتحديد هوية حزب سياسى إسبانى. وقيل ثانيا إن نشأة الليبرالية ملازمة لنشأة الرأسمالية بدعوى أن الرأسمالية هى الطريق إلى تحقيق الغاية من الليبرالية، وهى حرية الفرد. وقيل ثالثا إن حروب الأديان فى القرنين السادس عشر والسابع عشر فى أوروبا قد انبثقت عنها الليبرالية؛ لأن التسامح هو الطريق إلى منع الحروب، وهو فى الوقت نفسه الآن الطريق إلى الليبرالية من حيث إن التسامح يستلزم الحرية. ونعرف، من خلال كتابات فيلسوف مثل مراد وهبة، أن الليبرالية مرتبطة بثلاثة مصطلحات أخرى، تكتمل بها ما يسمى برباعية الديمقراطية. المصطلح الأول هو العلمانية «التفكير النسبى فيما هو نسبى وليس بما هو مطلق»، والثانى التسامح أو العقد الاجتماعى، الذى قال به جون لوك فى رسالته: «ليس من حق أحد أن يقتحم، باسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية»، والثالث هو التنوير أى لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه، والرابع الليبرالية «الحرية» الذى يعنى أن سلطة الفرد فوق سلطة المجتمع. أما فى التاريخ، فتطفو على السطح مباشرة ثورة 1919، وتجربتها العظيمة فى تعظيم المواطنة والليبرالية والديمقراطية. لكن للأسف، عرجت ثورة 1919 عن مسارها فخلفت مشكلات، عادت بنا إلى المربع صفر. ورغم ذلك، بقى من هذه الثورة ما يدلنا قليلا على خطواتنا لثورة 25 يناير، فضلا عن شخصياتها العبقرية، التى يجب الاقتداء بها. كتب الدكتور محمد الجوادى كتابا، صدر حديثا عن دار الشروق، بعنوان: «زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا وبناء الدولة الليبرالية»، وبعيدا عن انبهار الجوادى الشديد بالنحاس، يدلنا الكتاب على كيفية بناء دولة ليبرالية من خلال مشروع النحاس الذى كان يريد النهوض بمصر، لكن ثورة يوليو قامت فأجهضت مشروعه، رغم أنه هو البادئ فى أمور يعتقد الناس أنها من فعل رجال الثورة، مثل تمصير أو تأميم الشركات، واستقلال القضاء، وبناء القوات المسلحة وتطويرها. وهذه نقطة جدلية، يختلف عليها الباحثون والكتّاب حتى الآن. ويأتى كتاب الجوادى الذى يحتاج إلى قراءات متعددة عن زعيم وفدى فى وقت أعلن فيه د. السيد البدوى رئيس حزب الوفد الحالى أن مصلحة البلاد تقتضى تولى القوات المسلحة قيادتها عامين. وهذه كارثة فى تاريخ الليبرالية المصرية التى كان يتزعمها حزب الوفد القديم، ومن بعده الحزب الجديد، الذى أخذ على ما يبدو الاسم فقط، ونزع عنه كل التقاليد التنويرية والليبرالية التى تخص الوفد القديم. فى مقابل ما يحدث الآن، انظر ماذا فعل النحاس فى إدارته للدولة المدنية. يروى إبراهيم فرج أن النحاس العظيم حسب كتاب الجوادى لم يتقبل على الإطلاق منطق مدير البلديات الذى كان يأخذ الأمور بطريق المواءمة المظهرية بين المسلمين والأقباط التى درج عليها المصريون فيما بعد. والفقرة التالية من المذكرات توضح كيف تصرف النحاس فى حالة تمييز دينى وقعت ضد 12 قبطيا: «وسأله النحاس باشا عن سبب تأخر إعلان النتيجة فقال له: يا دولة الباشا.. الذين نجحوا فيهم عيب...فقال له: يعنى اللى نجحوا لم ينجحوا؟ يعنى إيه فيهم عيب؟ فقال: اتضح أن السبعة عشر الأوائل من بينهم اثنا عشر قبطيا. فاستشاط النحاس باشا غضبا وقال له: كيف تقول هذا؟ الذين نجحوا مصريون ومستوفون الشروط.. كيف يقال هذا فى عهد وزارة الوفد؟». عظمة النحاس (مصطفى محمد سالم النحاس (1879 1965)، فى هذه النقطة تتضح فيما فعله على الجانب المقابل، حين تصدى بحسم وسرعة لما عرفه وثبت لديه من تعصب كامل باشا صدقى وهو وزير المالية، الذى كان يوافق على طلبات توظيف الأقباط ويرفض كل طلبات المسلمين، إلى أن وصل به الأمر إلى أنه اشتبه فى اسم شاب فطلبه الوزير وسأله عن دينه فأجابه كذبا أنه مسيحى فعينه، وعند تقديم أوراق التعيين تبين أنه مسلم ففصله. اقرأ أيضا ما كتبه الجوادى فى كتابه عن خصائص شخصية النحاس، وكيف فك النحاس الالتباس المتجدد فى علاقة الدين بالسياسة: «كان النحاس فى حياته العامة والخاصة أكثر تدينا والتزاما من أولئك الذين رفعوا شعارات الدين فى ممارستهم للسياسة، كما كان أكثر تدينا والتزاما من خلفائه الذين رفعوا شعارات إبعاد الدين عن السياسة، وربما جاز لنا أن نصف سلوك النحاس تجاه هذه القضية بأنه كان فى جوهره إبعاد السياسة عن الدين، لا إبعاد الدين عن السياسة». الكاتب حمدى عبدالرحيم كتب مسلسلا تليفزيونيا عن النحاس، توقف حاليا بسبب الثورة. ويرى عبدالرحيم، وهو الناصرى، فى مصطفى النحاس الوفدى، تحققا لليبرالية وللديمقراطية إلى أقصى درجة وصل إليها العقل المصرى فى الظرف التاريخى الذى كان، وأنه وطنى منذ مولده إلى أقصى مرحلة عرفتها الوطنية المصرية. وبعد دردشة صغيرة مع عبدالرحيم الذى بدا متحمسا جدا لشخصية النحاس، ومتحسرا على زمنه الذى أخرج مكرم عبيد، زال استغرابى من نبرة انبهار محمد الجوادى فى كتابه، والتى منها: «لعل أصدق ما توصف به مكانة مصطفى النحاس باشا فى عصره أنه كان أكبر وأعظم مما يحتاج إليه عصره، فقد كان هذا الرجل يتمتع بمثاليات وكفايات خلقية وسياسية تفوق ما هو مطلوب من رئيس وزراء أو رئيس جماعة وطنية كبيرة كالوفد، ولو أن النحاس كان أقل مما كان عليه بالفعل لكان أكثر نجاحا وحظا عند معاصريه». السطر الأخير من كلام الجوادى، يفتح موضوعا شائكا حول قراءة التاريخ. الآن يقول الجوادى مثل هذا الكلام عن النحاس، لكن فى حاضر النحاس كان هناك كثيرون لا يرون ذلك بل كان يهاجمونه، حتى وإن كانوا يحترمونه، ويرونه غير وطنى فى تحالفه مع الإنجليز، أو لأنه لم يغضب مرة واحدة من أجل الدستور، كما عاب عليه الكاتب الكبير محمد التابعى. فهذا السطر يطرح سؤالا ملحا: إذا كان ذلك رأى الجوادى، وغيره فى النحاس الأعظم مما يحتاجه عصره، فلماذا ناله الهجوم والاستبعاد؟! ولعل هذا الجدل، هو ما يعطى استمتاعا بقراءة التاريخ. تخيل ماذا سيقول التاريخ، أو جزء منه، عن شخصيات ستصبح تاريخية بعد 50 سنة مثل محمد البرادعى أو عمرو موسى أو حمدين صباحى، أو حتى الرئيس المتنحى بإرادة الشعب محمد حسنى مبارك.