مصادر للقلق وعدم اليقين توجب أفكارًا ميثاقية: تلح ضرورة توفر أفكار ومبادئ ميثاقية لأى ديمقراطية عربية قادمة يقوم على أساسها عهد بالالتزام بقيم الثورة بين قوى الثورة وجمهورها وبين القوى السياسية المتنافسة المؤهلة للحكم. وليس المقصود هو مبادئ دستورية أو فوق دستورية، بل ترويج أفكار ومبادئ وقيم تستند إليها عملية صياغة مبادئ الدولة الديمقراطية العربية. بعضها يصلح أن يكون فى الدستور، وبعضها قيم ثاوية فى أساسه، وأخرى لا يمكن أن يشملها دستور، ولكنها توجه السياسات إذا ما تحولت إلى شبه مسلمات يمكن أن تكنى ب«قيم الثورات العربية الديمقراطية ومقاصدها». نحن نستخدم هذه العبارة مع درايتنا بالنقاش الدائر بعد كل ثورة حول تغير مصادر الشرعية. ما هو المصدر الجديد للشرعية؟ هل هى مبادئ فوق دستورية، أم هى إرادة الأغلبية؟ فالمبادئ فوق الدستورية تحتاج لمن يضعها، وإرادة الأغلبية تصلح لتغيير الحكومات مرة كل بضعة أعوام وليس لوضع الدستور. فلا يجوز تغيير الدستور بشكل متواتر، وذلك ليس فقط لأن الأغلبية متقلبة، بل أيضا لأنه يجب أن يستند إلى مبادئ راسخة. ومهما قبلنا بسؤال الدجاجة والبيضة هذا وبحثنا عن مصادر مطلقة فوق الآنى والراهن، فإنه لا بديل عن ترسخ مبادئ وقيم متفق عليها تحكم الحياة السياسية. ولا بديل عن محاولة صياغتها والتناقش حولها. وهنالك مصادر عديدة للقلق بشأن قدرة مرحلة ما بعد الثورة على تطبيق أهدافها، من دون نشوء تفاهم عام بين الأوساط السياسية والثقافية والاجتماعية الفاعلة حول الأهداف غير المصاغة للثورات. ونعدد هنا بعض مصادر القلق التى تدعو إلى اقتراح صياغة مثل هذه الأفكار: 1 ليس للثورات العربية حزب سياسى تفجرت الثورات على أساس برنامجه المفترض أن يطبقه حينما يستلم الحكم بعد الثورة. فالقوى التى قادت الثورات هى قوى تراوح نشاطها بين التنظيم والعفوية. وهى خططت لأعمال احتجاج أو خرجت مستمدة شجاعتها من نجاح ثورات أخرى فى إسقاط الحكم، وذلك قبل أن يشكل أى منها نموذجا فى الحكم أو فى إدارة البلاد. ومن هنا منبع القلق أن تقوم قوى سياسية قديمة، سواء أكانت فى الماضى فى الحكم؟ أم فى المعارضة؟، بتنفيذ برامج لم تصنع الثورة ولم تقم الثورة عليها. وإن قوة الإلزام الوحيدة المتوفرة هى تبنى مبادئ الثورة فى دستورين: دستور القلوب والضمائر التى رنت للتخلص من حكم جائر، والدستور الذى ينظم أسس إدارة الدولة من جهة، والذى تقوم عليه التشريعات المقبلة بوصفه «أبو القوانين» كما يقال من جهة أخرى. وتضغط المبادئ القائمة فى دستور الضمائر والقلوب على القوى السياسية، بما فى ذلك القديمة منها، لكى تعدّل نفسها وسلوكها بموجبها وتتكيّف معها. ويأتى الضغط من الرأى العام، ومن جمهور مؤيديها، وحتى من قواعدها الحزبية. ومن هنا أهمية تعميمه. 2 الاحتمال قائم بأن تكيّف الطبقات القديمة الحاكمة نفسها للتعاون مع قيادات سياسية جديدة، لأهداف وغايات مختلفة تتصل بمحاولة تعويم نفسها فى الفضاء الجديد الذى خلقته الثورات وحتى لاحتواء هذه الثورات، من دون تبنى مبادئ الثورة، وخاصة فيما يتعلق بمبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق المواطن. 3 ليس بالضرورة أن تشكل الأغلبية التى دعمت مبادئ الثورة الأساسية التى شكلت روحها أغلبية انتخابية فى كل لحظة زمنية معطاة. لقد قادت الثورات العربية وما زالت تقودها قوى شبابية ونشطاء دعمتهم لاحقا قوى سياسية مختلفة متفاوتة القوة، ولكن لم يكن بوسع أيٍ منها أن يقود الثورة لوحده، حتى لو افترضنا توفر قوة انتخابية عددية مفترضة لديه فى تلك اللحظة. فهو وحده لا يصنع الثورة، والدليل أنه لم يصنع ثورة حتى نشبت الثورة من دونه، ثم استمرت بمشاركته. أما الأغلبية الانتخابية ما بعد الثورة فقد تنتج عن ظروف أخرى، وعن معطيات لم تكن قائمة فى الثورة. ففى الثورة لا تصوت غالبية السكان، بل تدعم بالفعل أو بالقول أو بالصمت القوى التى تحركت وقادتها. 4 ليست الديمقراطية حكم الأغلبية، بل هى حكم الأغلبية بموجب قواعد وأسس ديمقراطية تضمنها مبادئ ينص عليها الدستور صراحة او تستمد من روحه، وهى الأسس التى لا يقوم من دونها أى نظام ديمقراطى. قد تدعم الأغلبية فى لحظة ما حزبا فى الحكم يطبق سياسة ما تمس بحقوق المواطن وحرياته، وقد تدعم الأغلبية حزبا يمس باستقلالية القضاء ولا يحترمها، أو يعمل بشكل حزبى داخل الجيش فيقوض أسس وطنية الجيش، ويلحقه بحزب بدل أن يتبع الوطن والشعب والسيادة. وقد تدعم الأغلبية فى لحظات تاريخية محددة فعلا غير ديمقراطى. ويبدو هذا تناقضا ولكنه ليس كذلك. فالأغلبية قد تكون غير ديمقراطية إذا منحث ثقتها لرئيسٍ ما مدى الحياة، أو إذا دعمت تقييد حقوق المواطن، أو إذا أيّدت التمييز بين المواطنين بسبب العقيدة أو الجنس أو الأصل. وقد لا تدعم الأغلبية الفعل غير الديمقراطى بذاته، ولكنها قد تدعم لأسباب معينة حزبا يتبنى سياسات غير ديمقراطية لأسباب أخرى. 5 ربما تكون مطالب الجمهور عادلة، ولكن هذا لا يعنى أنه دائما على حق. والجماهير المتحركة فى ثورة ضد نظم الحكم الجائرة هى على حق بالتأكيد. وهذا هو المبدأ فى الموقف من حركات الجماهير. ولكن هذا لا يعنى أن هنالك عدالة جماهيرية، أو أن العدالة هى ظاهرة جماهيرية. فالعدالة تتم بموجب قواعد القانون ونصوصه. والقانون فى النظام الديمقراطى هو نتاج تشريع غالبية ممثلى الشعب فى جلسة حوار ونقاش بموجب قواعد متفق عليها، وليس فى مظاهرة فى ساحة عامة. وهى تشرّع القانون بشكل لا يتناقض مع مبادئ عامة تحافظ على النظام الديمقراطى ذاته. ولا تمس بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية التى يضمنها هذا النظام. 6 فى الدول ذات التنوع الهوياتى الذى تداخل مع السياسة، ينشأ خطر اعتبار الديمقراطية حكم الأغلبية على أساس هويةٍ فرعيةٍ معطاةٍ مفروضةٍ على الفرد مثل المذهب والطائفة والناحية، وليس على أساس الرأى والمصلحة. وهو ما ينتهى عموما إلى حكم أقلية نافدة تدعى تمثيل جماعة الهوية. وهذا ما يترك الناس مع طغيان من نوع جديد، وهو طغيان أقلية تدعى الحديث باسم أكثرية هوياتية، غير ديمقراطية. وهو يؤدى إلى المس بحقوق المواطن المنتمى لهذه الأغلبية، أو للأقلية، لأنها تفرض عليه الانضواء فى إطار هويته الطائفية أو المذهبية أو العشائرية أو الجهوية. واستبدال حكم طائفى أو جهوى بآخر هو ما تنجبه الحروب الأهلية وليس الثورات، وبالتأكيد ليس الثورات الديمقراطية. وقد برز فى سوريا مؤخرا، إضافة لعنف الدولة القمعى بعض حالات العنف الجسدى البدائى المجهول المصدر الذى لا يميّز عنف الدولة، بل يميز جرائم الحقد المعروفة فى الصراعات الأهلية، ما يؤكد ضرورة منازعة أى صبغة طائفية للصراع ونفى الصفة الأهلية عن النضال من أجل الديمقراطية. 7 نشأت فى المعارضات العربية فى عهود الاستبداد تيارات سياسية تدعو إلى تنظيم المجتمع بناء على مبادئ شمولية دينية أو علمانية، وكانت الدينية أبرزها فى العقود الأخيرة. ولكن الديمقراطية ليست حكما بموجب أيديولوجية دينية، ولو كانت الشريعة ذاتها، ولا هى «تنافس حر» بين أحزاب فى إطارها وتحت سقفها. إنها الحكم بموجب قوانين مدنية تحترم مبادئ محددة. وهى لا تتناقض مع الشرائع السماوية، ولكنها لا تتم فى إطار يمنح الحق لرجال الدين فى تفسير ما يتطابق وما لا يتطابق معها بهدف فرضه على الدولة أو المجتمع. ويمكن القول بوثوق إنه من الأسباب التى دعت فئات واسعة ومؤثرة من الشعب إلى عدم الثورة على الاستبداد و«الرضا بواقع الحال» هو خوفان، الخوف من الفوضى، والخوف من البديل الدينى فى الحكم. ولو صرّح أحد فى ساحات الثورات أن البديل للاستبداد هو البديل الدينى السياسى كما طرح فى السبعينيات والثمانينيات لانهار التحالف المدنى ولفشلت الثورات فى إسقاط أى نظام حكم قائم. ولا يغير فى الأمر شيئا اذا سمى الحكم الدينى مدنيا بحجة أن مصدر شرعيته هو غالبية الشعب، أو لأنه لا يؤمن بالحكم بالحق الإلهى. فليست هذه قواعد الدولة المدنية. الدولة المدنية هى الدولة التى تقوم على أساس المواطنة والحقوق المدنية. ولا يهم أن يكون الحزب الذى يحكم قد تبنّى فى السابق، أو يتبنى حاليا أيديولوجية دينية او يسارية او ليبرالية. المهم أن يلتزم بشكل واثق وموثوق بالمبادئ الديمقراطية التى تشكل أساسا لأى دستور ديمقراطى. الدولة المدنية ليست دولة دينية. ولكنها أيضا ليست الدولة العلمانية العسكرية. وإن أى استناد إلى حكم العسكر لتجنب التيارات الدينية هو عودة للاستبداد. 8 بالإضافة للمعارضة الوطنية نشأت فى المعارضات العربية قوى سياسية تفرط بالقضايا الوطنية والقومية، أو ترى فيها جزءا من سياسات النظام القائم، وقد تكون مرتبطة بدعم أجنبى ما يجعلها تميل إلى تجاهل الدور الهدام لعلاقة الوصاية مع الولاياتالمتحدة والدول الصناعية الكبرى بشكل عام. وهى لا ترى أهمية جوانب مهمة فى تأسيس مسار التطور وسيادة الأمة، مثل الحفاظ على اللغة العربية وتطويرها، والموقف القاطع من احتلال أى أرض عربية، وبناء الاقتصاد الوطنى من دون إملاءات أجنبية وبموجب حاجات السكان وليس بموجب مصالح الآخرين. ولا يمكن أن ينص أى دستور على مثل هذه القضايا. ومن هنا الحاجة لمبادئ ميثاقية تشكّل أساسا لأى فهم ذاتى للديمقراطيات العربية المقبلة وتوجه تطورها. أما الدستور فيمكن على الأقل أن يثبت هوية الدولة كجزء من الوطن العربى وبالتالى يؤسّس فكريا روحيا لمثل هذه المبادئ. تثبت الدول هويتها الوطنية والقومية (كدولة أمة) فى الدساتير، كما تتفق أحزابها وقواها السياسية على مجموعة «مسلّمات إجماع قومى» لا حاجة لتوثيقها دستوريا لأنها محفورة فى النفوس عبر صياغات التجربة الجماعية من مناهج التدريس وكتابة التاريخ التقليدى والحوار بشأنه فى نقد الاساطير التاريخية، وحتى الخدمة العسكرية. الجزء الثانى ينشر غدًا