يقال إن القاهرة المملوكية كانت تمتلك 365 حماما شعبيا واحد لكل أيام السنة. اليوم، قل هذا العدد ولن تجد فى العاصمة المصرية سوى 6 أو 8 حمامات على الأكثر. هذا بعض ما دفع المصور الفرنسى باسكال مونييه إلى تصويرها فى أحد تحقيقاته عن الأماكن المهددة بالانقراض. جمعت هذه الصور فى كتاب بالفرنسية مع نصوص للروائية المصرية مى تلمسانى والصحفية الفرنسية إيف جندوسى، تصدر اليوم ترجمته إلى الإنجليزية عن الجامعة الأمريكية. انتقل مونييه بعدسته من حمام «بشرى» و«مرجوش» فى القاهرة القديمة إلى حمامى «الأربعاء» و«الثلاثاء» فى بولاق، صور «المغطس» و«بيت الحرارة» و»المسلخ»، صور أجساد الرجال نصف العارية فى حمامات لا تزال تقوم بدورها والسكان الجدد فى حمامات تحولت إلى مساكن أو فنادق، صور أصحابها والعاملين بها، الذين كتبت عنهم إيف جندوسى «بروفايلات»، مثل بروفايل «أشرف» صاحب حمام «بشرى»، الذى يرفض بيع حمامه مهما اشتدت به ظروف الحياة، أو «أم زينهم» صاحبة حمام مرجوش، وسعيد الذى يقوم بالتدليك فى حمام «بشرى»، و«كريمة التى تسكن فيما كان قديما «خلوة» حمام «حوش قدم»، و«عوكل ومشمش»، أصحاب حمامى «الأربعاء» و«الثلاثاء»، الذين أبدعا لتجديد حمامهما وفتحهما من جديد للجمهور. تلقى صور مونييه الضوء على شخصيات صورها كأنما أراد أن يرسم لوحات، بنظرة خارجية فى أغلب الأوقات، لا تتطلب تفاعلا بين المصور والشخصية المصورة. تهتم عدسته بالديكور أكثر مما تهتم بوجوه وتعبيرات الشخصيات، التى تكتسب قوتها من خلال تفاعلها مع مكان يجمع فى آن واحد بين الرهبة والألفة. لم تحتفظ الحمامات إلا نادرا بطابعها الأثرى، رغم إدراج العديد منها على قائمة المبانى الأثرية. تتحدث مى تلمسانى عن ذاكرة الحمام الأثرية والاجتماعية المهددة بالاندثار رغم اهتمام العديد من الباحثين بها. لم يعد الحمام الشعبى محطة مهمة فى حياة القاهريين اليومية كما كان فى وقت من الأوقات. لم يعد مكانا ل «تجارب جماعية» حسب تعبير الروائية المصرية فى إطار طقس اجتماعى كان له خصوصياته وقواعده. تستحضر تلمسانى أغنيات شعبية، على غرار «يا خارجة من باب الحمام» لتكتب عن مكانة هذا الطقس فى التراث المصرى وعما قد تحمله بواطنه من تلميحات اروتيكية وجنسية، كما تتحدث عما يعنيه العرى فى تغيير الوعى بالذات وبالآخر. لم يستغل هذا التراث فى السينما المصرية إلا نادرا حسب تلمسانى التى تكتب عن فيلمين لصلاح أبو سيف، «حمام الملاطيلي» و»لك يوم يا ظالم»، وفيلم لسعيد مرزوق «آى آى». يمزج «آخر حمامات القاهرة» بين دلالات الحمام فى ذاكرة مصر الشعبية ودلالاته فى الخيال الاستشراقى من خلال نصوص لرحالة أوروبيين فى القرن التاسع عشر والعشرين اختارتها جندوسى. كما تمزج صور مونييه بين الخيالين إذ تحافظ الضبابية وظلالها الكثيفة فى أغلبها على هالة من الغموض طالما جذبت الرحالة الباحثين عن الغرابة، خاصة فى مشاهد الحمامات التى ما زالت تعمل، ثم تقتحم فجأة الألوان الصريحة والتفاعل المباشر مع الكاميرا فى بورتريهات الشخصيات، التى أعطت للحمام حياة ثانية، حياة أخرى غير تلك التى أنشأ من أجلها، أو نجحت فى مزج الماضى بضرورات الحاضر، مثلما فعل «عوكل ومشمش». تنقذ صور هذه الشخصيات الكتاب من فخ النوستالجيا، وتجعل من تصفحه متعة حقيقية قد تغير تماما إحساس القارئ نحو الحمام الشعبى. ليصدق عليه المثل الشهير الذى تستحضره تلمسانى: «خروج الحمام مش زى دخوله».