تعددت فى زماننا مصادر الخوف من الطعام فالخضراوات والفاكهة لا تزدهر إلا بعد رشها بالمبيدات. والدجاج والخنازير أصبحت رمز الوباء قادم. والسمك ربيناه فى مزارع ملوثة فاستقرت المعادن فى أحشائه تحمل خطر التسمم، وحينما اصطدناه من النيل استخدمنا الديناميت، وحينما استوردناه جلبنا «الباسا» تحمل الشبهة من فيتنام. فماذا نأكل؟! وإذا كانت الأبقار تأكل العلف مخلوطا بالهرمونات والقمح يأتينا بحشراته سابق التجهيز معدا للخبيز؟. الصورة فى بلادنا قاتمة لكننا يجب أن نرى درجة القتامة فى إطار الحقيقة إذ إن الاختيار مازال متاحا للإنسان فى أن يحمى نفسه من شرور الطبيعة التى لوّنها بيديه وفعله فانقلبت عليه. إذا ما نحينا الشق العام فى القضية والخاص بجهود العالم فى الحفاظ على نقاء البيئة ومكافحة التلوث واتباع الطرق العلمية فى الوقاية من الأمراض فهل يظل للانسان دور فاعل فى الحفاظ على صحته وسلامته؟ الإجابة فى قناعتى نعم مازال للإنسان دوره الفاعل والمهم فى الحفاظ على صحته أولا: بدعمه لجهاز مناعته والعمل على تعزيز قدراته، ثانيا: بانتقائه لما يأكل عن علم ومعرفة. المناعة هى سلاح الانسان فى مواجهة الطبيعة والزمن. دعم الجهاز المناعى لدى الانسان إنما هو دعم فى مواجهة أخطار الأمراض المعدية الناجمة عن مسببات المرض من الكائنات الدقيقة (البكتيريا والفيروسات وغيرها) أو الأمراض المزمنة الجسدية والنفسية بل ومقاومة تأثير العوامل البيئية الضارة كالإشعاعات ومظاهر تلوث البيئة بل تتعدداها أيضا إلى مقاومة عوامل التوتر النفسى والضغوط العصبية التى أصبحت سمة أساسية لعصرنا. لذا إذا فكرنا فى توصيف «المناعة» وجدناها حالة من الثبات العضوى والنفسى لجسد الانسان تتيح له الرد بقوة على أى اعتداء خارجى يواتيه سواء كان فى صورة هجوم ميكروبى كالعدوى مثلا بأى من الكائنات المسببة للمرض أو أى صورة أخرى غير عضوية كالألم أو الضغط النفسى والعصبى. قد تكون المناعة مكتسبة بطريقة طبيعية كتلك التى يكتسبها الانسان بصفة مستمرة نتيجة تعرضه لمسببات الأمراض المختلفة فى جرعات لا تكفى لإحداث المرض أو صناعية كتلك التى يتلقاها الانسان فى صورة أمصال أو لقاحات مصنعة لأغراض الوقاية من الأمراض خاصة لحماية الأطفال أو الإنسان عامة فى زمن الأوبئة. فما الجهاز المناعى إذن؟ الواقع أن الجهاز المناعى لا يماثل أى الأجهزة المعروفة كالجهاز الدورى مثلا الذى يتألف من القلب والأوعية الدموية من شرايين وأوردة أو الهضمى الذى يضم المرىء والمعدة والأمعاء ويدعمه الكبد والبنكرياس إنما هو مجموعة من العمليات البيولوجية المتعاقبة تكمل بعضها الآخر ويمكن أن يشارك فيها كل أعضاء الجسد وخلاياه كل حسب وظيفته ودوره للتعرف على مسببات الأمراض أو الأورام وقتلها قبل أن تتمكن من الإنسان. يمكننا إذن أن نتخيل جهاز مناعة الإنسان كبناء محكم من الخلايا والأنسجة وأعضاء الجسد المختلفة وأنواع البروتينات المتعددة التى تتعاون مع بعضها البعض فى نظام متقن يتحور دائما فى إطار استراتيجية هدفها الأول القضاء على أى غزو يتعرض له الإنسان من الخارج أو الداخل. الأمر فى الواقع بالغ التعقيد كثير التفاصيل لكنه فى نهاية الأمر يبدو كالسهل الممتنع. لا يتوقف الأمر عند حدود درء الخطر بل إن الجهاز المناعى يحتفظ دائما بصورة فى ذاكرته للعدو يستعيدها بسرعة لتعاونه فى مقاومته إذا ما سولت له نفسه الاعتداء على صحة الانسان وسلامته. وهو ما يعرف بالمناعة المكتسبة. أهمية وحيوية الجهاز المناعى تتضح حينما يغيب دوره أو تقل فاعليته فى أمراض نقص المناعة والتى أهمها مرض الإيدز أو نقص المناعة المكتسبة الذى يسببه الفيروس الشهير (Retrovirus HIV) حيث يمكن أن تقتل الانسان عدوى بميكروب ضعيف قد يقهره الانسان العادى دون أن يتنبه للأعراض التى يسببها نتيجة لنشاط جهازه المناعى اليقظ. على العكس فإن نشاط الجهاز المناعى المفرط أو الزائد على الحد قد تنشأ عنه أمراض تنال من الإنسان مثل الإصابة بالروماتويد أو النوع الأول من مرض السكر وأمراض أخرى عديدة تلازم الإنسان طيلة حياته كالذئبة الحمراء أو الصدفية. إذا أدركنا أهمية جهاز المناعة فهل هناك ما يمكننا من دعم عمله وتعزيز قدراته؟ نعم هناك العديد من الأمور التى يمكننا بها تحفيز جهاز المناعة للعمل أو توفير طاقته للأهم من الأفعال وردود الأفعال لعلنا نستعرضنا فى إيجاز: قدر كافٍ من المياه النقية ارتواء خلايا الجسد بالقدر اللازم من الماء أول وسائل دفاعها عن نفسها فالماء ينقل إلى كل أعضاء الجسم بلا استثناء ما تحتاجه من عناصر تغذية كما أنه بيئة مناسبة للتفاعلات الحيوية والكيميائية التى تدفع عجلة الحياة، وتنتج الطاقة اللازمة لها. يلعب الماء أيضا دورا مهما فى نقل الخلايا المناعية إلى أماكن الالتهاب أو العدوى عبر الدم والجهاز الليمفاوى مما يجعل الجفاف خطرا حقيقيا على صحة الأنسجة وسلامتها ويمهد لغزو الميكروبات الشرسة لها. كما أن الماء يسهم بالدور الأكبر فى تسهيل خروج مخلفات العمليات الحيوية التى تتم داخل الجسم والسموم الناتجة عنها أو عن عمليات الدفاع التى يتولاها الجهاز المناعى. والتى تسفر عن كم من الخلايا الميتة وبقايا المعارك التى تمت إلى جانب تنشيطه لعمل الكلى التى تحتجز كل الشوائب والسموم التى يحملها الدم إليها فتعيد ترشيحه ليعود للجسم دما نقيا بينما تتولى إخراج ما استخلصته من البول. لذا فالبول دائما هو مؤشر جيد لعمل وكفاءة الكلى ودراسته (لونه وكثافته وما يحتويه من خلايا أو أملاح) على بساطة الاختبار وسهولته يعطى الكثير من المعلومات المفيدة عن دور الكلى فى النشاط المناعى. تناول المضادات الحيوية اللازمة فقط الإسراف فى تناول المضادات الحيوية لأى سبب بسيط بزعم الوقاية أمر يربك الجهاز المناعى ويقلل من فاعليته لذا فالمضادات الحيوية يجب أن يقتصر تعاطيها على ما يصفه طبيب مؤهل بل قد تخضع لاختيارها وفقا لحساسية الميكروب الذى ستستخدم للقضاء عليه مما يعرف باختبار مزرعة الحساسية. أيضا يجب مراعاة أن تكون الجرعة كافية ليست أقل من المطلوب ولا تزيد، إلى جانب الاهتمام بقراءة كل ما يتعلق بالمؤثرات التى قد تضاعف من تأثير المضاد الحيوى أو تبطل مفعوله. هناك أيضا من المضادات الحيوية الذى يوصى باستعماله للوقاية عند زيارة طبيب الأسنان كمرضى القلب أو قصور عمل الشرايين التاجية أو إصابات الحمى الروماتيزمية وصمامات القلب. الوقاية باستخدام البنسلين الطويل المفعول لفترة طويلة قد تصل إلى سن الثلاثين تستدعى إجراء اختبار للحساسية فى كل مرة يعطى فيها المستحضر بالحقن العميق فى العضل. الحرص فى استخدام المضادات الحيوية فى موعدها لفترة كافية وبجرعة دقيقة الحساب أمر يدعم الجهاز المناعى ويعاونه. الامتناع عن التدخين لم يعد هناك جدل قائم يحمل أى احتمالات تشير إلى أن التدخين يحمل لصاحبه أى قدر من الخير إلا إذا اعتبرنا أن ما يتحدث عنه المدخن من متعة شخصية أمر يخصه وحده يجب أن يحمى من حوله من خطره. فالتدخين السلبى أو ما يستنشقه الإنسان مضطرا لا يقل خطرا عن ذلك الذى يستنشقه من سيجارة يدمنها. التدخين يدمر الخلايا المناعية التى تحمى الجهاز التنفسى ويعطل طاقاتها، فالمدخن عرضة أكثر من غيره لأمراض الجهاز التنفسى الميكروبية وغيرها أيضا، فالصلة بين التدخين وسرطان الرئة مؤكدة علميا. الامتناع عن التدخين يضمن مراجعة جهاز المناعة لمقدراته فخلال الثلاثة أيام التى تلى التوقف عن التدخين ترتخى الشعب الهوائية وتتمدد الرئة وتستعيد بعضا من ليونتها التى تساعد على التنفس فى يسر كما أن الخلايا المناعية المنتشرة فى الجهاز التنفسى تستعيد نشاطها وطاقتها. الدعوة للاسترخاء والتأمل والنوم بعمق. النصيحة الأولى التى يقدمها لك الطبيب منذ الأزل هى الراحة فى الفراش، الواقع أنها نصيحة يثبت الزمن صحتها دائما فمع الراحة توفير لجهد تحتاجه وقت الصحة أكثر. التوتر والقلق النفسى أمراض اكتسبها الإنسان بفعل الزمن وضغوط الحياة المختلفة العام منها والخاص حتى استحدثت فى الطب أسماء لأمراض يطلق عليها «النفسجسمية» تعبير يجمع بين النفس والجسم فى إطار مرضى واحد. البحث عن سبب نفسى لعلة تعلن عن نفسها بأعراض جسدية أصبح أمرا واردا فى احتمالات التشخيص لدى كل طبيب حكيم.. معظم أمراض آلام الظهر والصداع وتقلبات الأمعاء بل والشلل المؤقت وآلام الصدر يجب وضعها فى الاعتبار إذا ما استعصى التشخيص. تشير كل الدراسات الحديثة إلى ارتباط مستوى المناعة بمستوى التوتر والقلق والضغوط النفسية التى يعيشها الإنسان، فكلما ارتفع مؤشر الضغط النفسى انخفض مؤشر المناعة وأصبح الإنسان فريسة للمرض النفسى والعضوى معا. قد يحتاج الإنسان بالفعل لطبيب نفسى يعاونه إذا ما بلغ الأمر حدا لا يمكن التعامل معه بمفرده لكن الاستعانة بالقدرات الذاتية تعطى الإنسان قدرا من الثقة بالنفس بعيدا عن تأثير العقاقير والمهدئات. كل ما تحتاجه هو قدر من الهمة يعينك على إعادة ترتيب أوراقك ومراجعة قائمة أصدقائك وتجديد هواياتك واقتطاع وقت من يومك تقضيه مع نفسك بصورة تريحك ومن المفيد للغاية تعلم الطرق التى تعاونك على الاسترخاء والتأمل قد تتخيل فى هذا ترفا لا تحتمله حياتك ولا يليق بإنسان جاد تعددت مسئولياته!.. الواقع أن هذا ما يجب تحديدا أن تفعله فى مواجهة تلك الحملة الشرسة التى تتعرض لها يوميا إذا كنت مهموما بأحوالك ومن حولك. النوم بعمق هو رمانة الميزان للصحة النفسية والجسدية للإنسان فاحرص على ساعات نوم كافية والجأ لكل الوسائل التى تتيح لك نوما هادئا فلا تحتفظ بتليفزيون يحمل إليك الإثارة والكآبة فى آن واحد، وتخلص من كل الأجهزة التى تعمل بلا توقف كالمنبه أوالراديو أو التليفون المحمول الذى تتخلق حوله الموجات الكهرومغناطيسية. النوم العميق لمدة تكفيك أكثر ما يدعم جهاز المناعة ويعزز نشاطه. الرياضة تعزز المناعة وتؤجل الشيخوخة إلى حين إشعار آخر. إذا كان للإنسان أن يختار وسيلة وحيدة يؤجل بها شيخوخته فمن الحكمة أن يختار الرياضة. المناعة الطبيعية ترتبط ارتباطا وثيقا بالقدرة على الحركة ولا يمكن تعزيز القدرة على الحركة إلا بالاستمرار فيها. النشاط البدنى المنتظم يدعم طاقة الإنسان النفسية إذ يلازمه إفراز «الأندروفينيات» أو المواد المضادة للألم الباعثة على السعادة كما يعرفها العلم أيضا يدعم طاقته الجسدية إذ يساهم فى سرعة سريان الدم وتدفقه إلى كل أعضاء الجسم مما يحفز طاقته ويزيد من مستويات الطاقة. الرياضة أيضا تدعم هيكل الإنسان العظمى وتكافح أعراض هشاشة العظام عند الرجال والنساء خاصة، كما أنها تحافظ على المسافات بين الفقرات والتى تضغط مع الوقت فيخسر الإنسان من طوله بعضا من السنتيمترات. كما أنها بلا شك تعاون فى الاحتفاظ بوزن مثالى أو تحقق الهدف من إنقاص الوزن إذا ما ارتبطت بنظام غذائى متوازن. لا تقف حدود فوائد الرياضة عند هذا الحد بل تتعداه للمساهمة فى تنظيم مستوى السكر فى الدم المفيد لمرضى السكر والأصحاء معا إلى جانب ما تعود به على مريض الضغط المرتفع من مساهمة فى تخفيض مؤشراته بصورة إيجابية. أثر الرياضة أيضا معروف فى الوقاية من أمراض شرايين القلب التاجية والعمل على ارتفاع نسبة الكوليسترول الحميد فى مواجهة الردىء منه إلى جانب دورها فى تحفيز نمو شرايين صغيرة جديدة تتواصل فيما بينها لنسج شبكة من الشعيرات الدموية تسهم فى دواء القلب بعد الإصابة بالجلطة فى أحد شرايينه التاجية. تظل صحة الإنسان هى محصلة ما يأكله.. فماذا نأكل؟ وكيف ننتقى طعامنا ونطهوه بالصورة التى تحافظ على فائدته كاملة؟. إنه حديث الأسبوع المقبل إن شاء الله.