مرت بمصر أوبئة كثيرة عبر تاريخها سجلها المؤرخون، لكن أكثرها تأثيرا كان الوباء الذى ضرب مصر سنتى 748/749ه، والذى ضرب وقتها العالم كله من الصين إلى غرب أوروبا، وبدأ فى الشرق الأقصى قبل وصوله إلى مصر بعدة سنوات، لكن حركة التنقل فى العالم وقتها كانت تبطئ من سرعة انتشار الأوبئة على النطاق العالمى، وقد عرف هذا الوباء فى الغرب باسم الموت الأسود وعرف عندنا فى الشرق باسم الفناء الكبير، وكان لهذا الوباء تأثيره على العالم أجمع بسبب الخلخلة السكانية التى أعقبته وأدت إلى تغيرات اجتماعية واقتصادية على الصعيد العالمى، انعكست فيما بعد على الفكر والسياسة. لقد أصاب الوباء مصر فى عصر دولة المماليك البحرية، فى فترة صراع سياسى عنيف على السلطة بين أمراء المماليك، وفى زمن كثر فيه الظلم والفساد، وضج الناس من عسف الأمراء، وتغول السلطة، وكانت سنة 748 قد شهدت تولى السلطان حسن بن محمد بن قلاوون لعرش السلطنة وسنه وقتها إحدى عشرة سنة، ولم يكن الأمر بالطبع بيد السلطان الطفل بل بيد الأمراء والوزير. كانت سنة كما وصفها أهل ذلك الزمان «كثيرة الفساد فى عامة أرض مصر والشام، من كثرة النفاق، وقطع الطريق، وولاية الوزير منجك جميع أعمال المملكة بالمال، وانفراده وأخيه الأمير بيبغا روس النائب بالتدبير، دون كل أحد». وقد سجل تقى الدين المقريزى أخبار هذا الوباء بشىء من التفصيل فى كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك»، والمقريزى لم يكن معاصرا للوباء لكنه ولد بعده بسنين قليلة فى سنة 766ه بحارة برجوان بالقاهرة، يقول المقريزى فى حوادث سنة 749ه: «فكان فيها الوباء الذى لم يعهد فى الإسلام مثله، فإنه ابتدأ بأرض مصر آخر أيام التخضير، وذلك فى فصل الخريف فى أثناء سنة ثمان وأربعين. وما أهل المحرم سنة تسع وأربعين حتى انتشر الوباء فى الإقليم بأسره، واشتد بديار مصر فى شعبان ورمضان وشوال، وارتفع فى نصف ذى القعدة. وكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألفا إلى عشرين ألف نفس فى كل يوم. وعملت الناس التوابيت والدكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجرة، وحمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحفرت الحفائر وألقوا فيها، وكانت الحفرة يدفن فيها الثلاثون والأربعون وأكثر، وكان الموت بالطاعون يبصق الإنسان دما، ثم يصيح ويموت، وعم مع ذلك الغلاء الدنيا جميعا. ولم يكن هذا الوباء كما عهد فى إقليم دون إقليم، بل عم إقليم الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا جميع أجناس بنى آدم، وغيرهم حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البر». وعن حال السلطان وكبار رجال دولته فى زمن الوباء يقول المقريزى وهو يذكر أحداث شهر رجب: «وفيه كثرت الأخبار بوقوع الوباء فى عامة أرض مصر، وكثرة أمراض الناس بالقاهرة ومصر، فخرج السلطان والأمراء إلى سرياقوس. فكثر الوباء حتى بلغ فى شعبان عدد من يموت فى كل يوم مائتى إنسان، فوقع الاتفاق على صوم السلطان شهر رمضان بسرياقوس». ومع انتشار المرض تشيع الخرافات بين الناس فتأتى القصص من الشرق والغرب مدعمة بمحاضر شرعية من القضاة تحمل أخبارا عن معارك بين جيوش الأفاعى والأمطار التى تحمل الموت، والرياح التى تصيب من يشمها بحالة من الهياج يظل يخبط بعدها رأسه فى الأرض حتى يموت، وتتردد الحكايات حول قرب نهاية العالم فى المشرق وفى أوروبا. ويتتبع المقريزى أصل الوباء فيذكر أن «أول ابتدائه من بلاد القان الكبير، وبعدها من توريز إلى آخرها ستة أشهر، وهى بلاد الخطا والمغل، وتزيد عدتهم على ثلاثمائة جنس، فهلكوا بأجمعهم من غير علة، فى مشاتيهم ومصايفهم، وفى مراعيهم وعلى ظهور خيولهم، وماتت خيولهم، وصاروا كلهم جيفا مرمية فوق الأرض، وذلك فى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، على ما وصلت به الأخبار من بلاد أزبك. ثم حملت الريح نتنهم إلى البلاد، فما مرت ببلد إلا وساعة يشتمها إنسان أو حيوان مات لوقته وساعته. ثم اتصل الوباء ببلاد الشرق جميعا.. وعم الوباء بلاد الفرنج وابتدأ من الدواب، ثم الأطفال والشباب.. وعم الموت أرض أفريقيا بأسرها، جبالها وصحاريها ومدنها، وجافت من الموتى». وبغض النظر عما فى رواية المقريزى لأصل الوباء من تفاصيل بعيدة عن الواقع فالمؤكد أن الوباء بدأ بالفعل من الشرق الأقصى وانتقل من هناك إلى باقى بقاع الأرض المعروفة وقتها. وعن تأثير الوباء على الأوضاع السياسية والاقتصادية يؤكد المؤرخون أن كثرة الموت بين المماليك والأمراء أدت إلى حل كثير من الإقطاعات وتوفير مرتبات الحاشية السلطانية وأرباب الوظائف العامة والكتاب. أكثر تناقل الإقطاعات من أمير إلى أمير بسبب كثرة موتهم، حتى كان الإقطاع الواحد ينتقل بين عدة أشخاص فى أيام قليلة، ويشير المقريزى إلى تحول اجتماعى مهم حيث يقول: «فأخذ إقطاعات الأجناد أرباب الصنائع من الخياطين والأساكفة والمنادمين، وركبوا الخيول، ولبسوا الكلفتاه والقباء»، وهى من أزياء الأمراء». ويذكر المقريزى أن أهل قطيا ماتوا وصارت جثثهم تحت النخيل وعلى الحوانيت، ولم يبق منهم سوى الوالى وغلامين من أصحابه وجارية عجوز، فبعث يستعفى من منصبه. كما توقفت الأسواق بالقاهرة وأغلقت أكثر الحوانيت، وفى الإسكندرية أغلقت دار الطراز لعدم وجود الصناع، وغلقت الأسواق وديوان الخمس الذى يجبى الجمارك على البضائع الواردة من الخارج، وأريق من الخمر ما يبلغ ثمنه زيادة على خمسمائة دينار. وفى البرلس ونستراوة تعطل الصيد من البحيرة لموت الصيادين، وكانت الأسماك التى يتم صيدها كذلك مصابة بالمرض، ويذكر المقريزى أن الوباء عظم بالمحلة حتى أن الوالى كان لا يجد من يشكو إليه، وكان القاضى لا يجد شهودا يشهدون على الوصايا، وصارت الفنادق لا تجد من يحفظها. وتوقفت جباية الضرائب فى الوجه البحرى كله بسبب تفشى الوباء وموت الآلاف من الفلاحين حتى أنه لم يوجد من يضم الزرع. ويشير المقريزى إلى أن أصحاب الأموال زهدوا فى أموالهم، وفى رمضان اجتمع الناس فى المساجد والقرافة يصلون ويقرأون القرآن ويبتهلون إلى الله أن يرفع الوباء عنهم. وتوقفت الأفراح والأعراس فخفض الوزير الضريبة المفروضة على المغنيات والراقصات بمقدار الثلث. وينهى المقريزى حديثه عن الوباء بقوله: «وتعطلت أكثر الصنائع، وعمل كثير من أرباب الصنائع أشغال الموتى، وتصدى كثير منهم للنداء على الأمتعة.. وصارت كتب العلم ينادى عليها بالأحمال، فيباع الحمل منها بأبخس ثمن. واتضعت أسعار المبيعات كلها، وعدمت جميع الصنائع، فنودى بالقاهرة من كانت له صنعة فليرجع إلى صنعته.. ويقال إن هذا الوباء أقام يدور على أهل الأرض مدة خمس عشرة سنة». وكانت النظم المالية فى مصر تقضى بإسقاط عام كل ثلاثة وثلاثين عاما من التقويم بسبب الفارق بين التقويم الهجرى القمرى والتقويم المصرى النجمى الشمسى الذى تقوم عليه نظم الزراعة فى مصر منذ أقدم العصور، حتى تنضبت الحسابات المالية، وكانت سنة 749 هى السنة التى ينبغى إسقاطها من الحساب، ويذكر القلقشندى أن الناس قالت عن تلك السنة: «مات فى تلك السنة كل شىء حتى السنة نفسها». وكما يقول المؤرخ الكبير الدكتور محمد مصطفى زيادة: «ولعل هذه العبارة المريرة أبلغ ما قيل فى وصف هذا الوباء».