«القرية كلها بنيت من خير ليبيا، فكل هذه المبانى الشاهقة فى أبوجندير مركز إطسا فيوم (حوالى 120 كم من القاهرة) شيدت من مدخرات أهل القرية الذين رحلوا إلى هذا البلد على مدار الخمسة وعشرين سنة الماضية»، هكذا يعلق رمضان إسماعيل جزار خمسينى عاد لتوه من ليبيا. منذ شهرين فقط كانت القرية شبه خالية من الرجال بشكل قد يعيد للأنظار مشاهد من فيلم (عرق البلح) للمخرج الراحل رضوان الكاشف. حوالى سدس رجال أبوجندير كانوا قد ذهبوا لليبيا تاركين وراءهم نساء وأطفالا، فتشير أرقام مشيخة القرية إلى أنه من ضمن 30 ألفا هم جملة سكان أبوجندير رحل 5 آلاف رجل قد ارتحلوا إلى ليبيا طلبا للرزق، فأبوجندير هى من أوائل القرى التى اتجه سكانها غربا، ثم انتقلت العدوى إلى القرى المجاورة مثل منيا الحيط والروفان. فى أبوجندير هناك العديد من المشروعات المؤجلة حتى العودة من ليبيا، فمشروعات البناء والتشييد وشراء الأراضى الزراعية أو البهائم وكذلك الزواج والعمرة كلها تعتمد على دينارات الجماهيرية. يوضح لبيب فلاح على أعتاب العقد السادس كان قد سافر لليبيا فى منتصف التسعينيات: «جيل بأكمله قد تزوج من نقود ليبيا. تعتبر الفيوم من أفقر محافظات مصر نظرا لرخص الغلال التى تنتجها، فعندما ضاقت بنا موارد الرزق وتدهورت أحوال الزراعة بعد قانون الأراضى لعام 96 الذى نظم العلاقة بين المالك والمستأجر، بدأت فكرة السفر تفرض نفسها. رفضنا الاقتداء بشباب قرية إيطاليا المجاورة الذين لجأوا إلى الهجرة غير الشرعية، ولم يكن أمامنا سوى التفكير فى التوجه لليبيا، الدولة العربية الوحيدة التى فتحت أبوابها آنذاك أمام العمالة المصرية. كما أن إجراءات السفر إليها كانت أيسر وأقل تكلفة عن البلدان الأخرى». ويضيف لبيب: «تكاليف السفر إلى السعودية قد تصل إلى خمسة عشر ألف جنيه ناهيك عن ضرورة وجود كفيل، بينما السفر إلى ليبيا لا يحتاج سوى ألفى جنيه فقط ولا حاجة لكفيل». تدور صوانى الشربات فى منزل الحاجة فاطمة التى عاد أبنها أخيرا من طرابلس، وترتفع الزغاريد على استحياء مراعاة لمشاعر جارتها فتحية التى انقطعت أخبار ابنها فى مصراتة. تتنفس الحاجة فاطمة الصعداء، فمنذ أيام انتشرت شائعة عن مقتل ابنها وحملت لها مكالمة هاتفية الخبر المشئوم. «لم نذق الزاد لمدة يومين وأطفأنا التليفزيون، واكتسى البيت بلون الحداد. كنت أشعر أن قدماىّ لا تحملانى، فهو ابنى وحيدى وعائل الأسرة بعد مرض والده». تبدى فاطمة نوعا من الحزن على الأغراض التى تركها ابنها فى ليبيا مثل البطاطين وأقمشة لحريم العائلة و«تحويشة» 6 شهور شغل، كما أنها لن تحصل من الآن فصاعدا على الحوالة النقدية (500 جنيه) التى اعتاد ابنها إرسالها كل شهر، لكنها لا تقطع الأمل فى عودة ابنها إلى ليبيا مجددا بعد أن تهدأ الأمور. يقول محمد، الشاب العشرينى وابن الحاجة فاطمة: «مكان إقامتى كان لا يبعد عن المطار سوى7 كم، لكن الطريق بدا طويلا وشائكا. فقد مكثنا لمدة عشرة أيام محبوسين لا نستطيع أن نغادر منازلنا التى كانت هدفا لأنصار القذافى، لا لشىء سوى أنها أماكن تؤوى عددا من المصريين، بقينا أربعة أيام لا نجد ما نأكله سوى الخبز والأرز المسلوق. وعندما تمكنا من الوصول للمطار، أجبرنا على ترك أمتعتنا وأجبر كل مصرى على دفع مبلغ 200 دينار كنوع من الإتاوة حتى يتمكن من الصعود إلى الطائرة». حديث ليبيا وعودة المسافرين يكاد يكون الحديث الوحيد المشترك الذى يفرض نفسه على أهل أبوجندير، فبين الخوف والترقب والقلق ما زالت القرية تعيش أيامها المتتالية، بل إن الكثيرين ممن فقدوا الاتصال بذويهم يسعون للحصول عن أنباء تخص العائدين. فربما لا تشغل أخبار الثورة فى مصر وأحداث ميدان التحرير بال الكثيرين من سكان أبوجندير بقدر اهتمامهم بالأحداث الدائرة فى ليبيا الذين يتابعون بشغف التليفزيون الليبى الرسمى وقناتى العربية والجزيرة، كما أن النساء رغم الأمية المتفشية بينهن يحفظن عن ظهر قلب أسماء المدن الليبية التى اعتاد المصريون العمل بها مثل مصراتة وإجدابيا وسرت وطرابلس وبنغازى، كما يدركن جيدا موقع كل منها ومدى احتدام المعارك فيها لصالح الثوار أو القوات الموالية للقذافى. يعيش بيت فتحية على صفيح ساخن، فقد عاد أحد أبنائها من إجدابيا بينما انقطعت أخبار الثانى فى مصراتة. يرتجف قلبها مع كل مكالمة هاتفية خوفا من أن تأتيها أنباء عن تصفيته، ولا تنام الليل من فرط قلقها على الغائب. «لقد سافر ابنى كى يتمم مشروع زواجه الذى ظل معلقا لسنوات بسبب الظروف المادية»، تمضى الأم الستينية فى حديثها وتروى كيف وصلت إلى السفارة الليبية فى القاهرة مما كلفها قرابة خمسمائة جنيه من ميزانيتها الضئيلة فى محاولة بحث عن أى وسيلة للاتصال بابنها بعد أن انقطعت سبل الاتصال به منذ عشرة أيام.. وما زالت تنتظره.